تشير كل المؤشرات المتعلقة بالاعتداءات الأخيرة على منشأتي نفط سعوديتين إلى أن إيران بدّلت تكتيكات واستراتيجيات زعزعة الاستقرار في المنطقة بأن تولت هذه المرّة بنفسها شنّ أسوأ هجوم إرهابي على المملكة، مستهدفة عصب الاقتصاد العالمي، في محاولة لإرباك سوق النفط، فيما كانت في السابق تعتمد على وكلائها في المنطقة لتنفيذ أجندتها.
ويعد المجمعان النفطيان بقيق وخريص الذين تعرضا لهجوم ضخم السبت الماضي، القلب النابض لصناعة النفط في المملكة، إذ يصل إليهما معظم الخام المستخرج للمعالجة قبل تحويله للتصدير أو التكرير.
وتنفي طهران أي مسؤولية لها، لكن التقييم الأولي ونتائج التحقيقات الأولية تؤكد أن الصواريخ من طراز كروز انطلقت من قاعدة إيرانية على الحدود مع العراق وأنها عبرت أجواء العراق لتلتف بعدها عابرة الأجواء الكويتية وصولا إلى أهداف، في محاولة لإخفاء مصدر انطلاقها.
وبهذا الهجوم تكون طهران قد تجاوزت كل الخطوط الحمراء مستمرئة التراخي الأميركي والمرونة التي أبداها الرئيس دونالد ترامب تجاهها باستعداده لعقد لقاء مع نظيره الإيراني حسن روحاني.
واستفادت أيضا من الحرص الأوروبي على إنقاذ الاتفاق النووي مراهنة على مخاوف الأوروبيين من تداعيات انهيار الاتفاق، فالدول الأوروبية سارعت بعد توقيع اتفاق 2015 إلى العودة بقوة إلى السوق الإيرانية وأبرمت صفقات اقتصادية ضخمة، فانهيار الاتفاق النووي يعني ضربة قاصمة لمصالحها ولكبرى شركاتها.
وألحقت العقوبات الأميركية التي أعاد ترامب فرضها على إيران عقب إعلانه الانسحاب في مايو/ايار 2018 من الاتفاق النووي، أضرارا بالغة بالشركات الأوروبية التي علقت أنشطتها خوفا من أن تطالها الإجراءات العقابية الأميركية.
ولم يخف المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط دنيس روس مخاوفه من تغير التكتيكات الإيرانية وتحول إيران من المواجهة بالوكالة إلى المواجهة المباشرة رغم تمسك طهران بعدم مسؤوليتها عن تلك الهجمات.
ونقلت شبكة 'سي ان ان' الأميركية عن روس قوله، إن إيران مسؤولة بصورة مباشرة عن الهجوم على معملي شركة أرامكو السعودية في بقيق وخريص.
وقال أيضا إن مسؤولية إيران المباشرة عن الهجوم "مثير للقلق لأنها تخطت عتبة عندهم، بالعادة إيران تعمل عبر أذرعها وتقوم بالأعمال بصورة غير مباشرة، المرشد الإيراني علي خامنئي، كان خائفا من الحرب العراقية الإيرانية وحاول منذ ذلك الوقت الابتعاد عن المواجهة المباشرة".
واعتبر روس أن سماح خامنئي للحرس الثوري بمهاجمة السعودية أمر غير مسبوق ومقلق للغاية، مضيفا أنه يعمل الآن على إعداد ملف لمشاركته مع الأوروبيين ودفعهم لاتخاذ موقف حازم لعزل إيران.
وتقليل اعتماد إيران على وكلائها في المنطقة يمكن تفسيره بمحاولة طهران إرسال رسائل مباشرة للولايات المتحدة مفادها أنها قادرة ليس فقط على زعزعة استقرار محيطها الإقليمي والجغرافي بل أيضا العالمي، فاستهداف منشآت النفط السعودية من شأنه أن يحدث زلزالا اقتصاديا وأن يدفع أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.
ويبدو أيضا أن الجهود الأميركية لتضييق الخناق على أذرع إيران في المنطقة من خلال العقوبات وتجفيف منابع تمويل تلك الأذرع بما في ذلك ميليشيا الحشد في العراق والحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان وسوريا، دفع طهران لتبديل تكتيكاتها من هجمات بالوكالة إلى هجمات مباشرة مع إنكار تورطها فيها كما هو الحال مع الهجمات على مجمعي بقيق وخريص.
ودفعت العقوبات الأميركية الاقتصاد الإيراني إلى حافة الهاوية خاصة بعد تضييق الخناق على صادرات النفط، ما أدخل إيران في أزمة مالية يصعب معها مواصلة الإنفاق بسخاء على وكلائها في المنطقة.
لذلك يحيل الهجوم الأخير على منشأتي أرامكو في المملكة إلى محاولة إيرانية لتقليص انفاقها على أذرعها مقابل تولي الحرس الثوري تنفيذ المهمات القذرة بنفسه.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن طهران تخلت عن وكلائها بقدر ما هي مراجعة للتكتيكات ولعمليات الإنفاق الضخمة التي تكلفها مبالغ مالية طائلة.
وتريد طهران أيضا أن ترسل رسالة مباشرة للرئيس الأميركي مفادها أن سياسة الضغوط القصوى التي ينتهجها لدفعها للتفاوض تحت الضغط لن تفيد في شيء وأنها ماضية في سياساتها التخريبية ما لم ينه العقوبات عليها.
وفي محاولة للتملص من المسؤولية عن هجمات بقيق وخريص، رفض وزير الدفاع الإيراني أمير خاتمي، الاتهامات الموجهة لبلاده، مؤكدا أن الحوثيين نفذوا الهجوم بوسائلهم الخاصة.
ووفقا لوكالة تسنيم الإيرانية، رد خاتمي الأربعاء، على اتهامات واشنطن بأن الهجمات على أرامكو السعودية نفذت بصواريخ أطلقت من الأراضي الإيرانية، مؤكدا أن الحوثيين سبق لهم أن نفذوا هجمات مماثلة بصواريخ يبلغ مداها 1200 كيلو متر.
وأضاف "المسألة واضحة للغاية، الهجوم يأتي في إطار الصراع بين البلدين واليمنيون أعلنوا مسؤوليتهم عن العملية. اليمن تعرض لهجمات مكثفة منذ سنوات وتكبد خسائر كبيرة، وأهله في حصار وهم من نفذوا العملية".
وإلقاء الكرة في ملعب الحوثيين لا يخرج أيضا عن إستراتيجية إيران لتبرئة ساحتها وتحميل أحد أذرعها المسؤولية، فالمتمردون في حالة حرب منذ انقلابهم على الشرعية بقوة السلاح وأيا كانت الإجراءات العقابية الدولية فإنها لن تكون بالشدّة المؤثرة على خلاف إن فرضت على طهران.
وقد أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اليوم الأربعاء أنه أمر بفرض عقوبات مشددة ومكثفة على إيران على اثر الهجمات الإرهابية على منشأتي النفط السعوديتين والتي تؤكد واشنطن والرياض أنها من تنفيذ طهران.
وكتب في تغريدة على تويتر "لقد أمرت للتو وزير الخزانة بتشديد العقوبات ضد الدولة الإيرانية!".
ولم تتضح تفاصيل تلك العقوبات، لكن سبق لواشنطن أن فرضت حزمة من العقوبات على إيران، إلا أنها (العقوبات) لم تكبح الإرهاب الإيراني والانتهاكات المستمرة للاتفاق النووي.
وتراهن إيران التي خبرت في السابق التعامل مع العقوبات الأميركية على طول النفس والصمود، لتفكيك تداعياتها بدعم من أوروبا في انتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية 2020 التي قد يخسرها ترامب، من دون التخلي عن ممارساتها التخريبية وتهديداتها لأمن الملاحة البحرية في مضيق هرمز وبحر عمان وباب المندب على البحر الأحمر وهي الممرات المائية الحيوية لإمدادات الطاقة للعالم وللتجارة البحرية.