تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مستقبل الصحف الورقية والأنترنت

الصحف الورقية تعاني من الأنهيار
AvaToday caption
لا يحبّذ كثيرٌ من القراء دفع بضعة جنيهات لشراء صحيفة ورقية، في وقت بإمكانهم قراءة كثيرٍ من الأخبار الموجودة في الصحف الورقية عن طريق هواتفهم مجاناً
posted onMarch 2, 2019
noتعليق

تخيَّل للحظة أنك كنت تعمل في بيع الكعك الفاخر في الوقت الذي بدأ فيه الإنترنت بالانتشار. ستتساءل كيف يمكنك السير وفق ما كان يُعرف بتسمية غريبة بعض الشيء، "طريق المعلومات السريع"، ثم تقع على خطة عمل مبتَكَرة، إذ سيبقى متجر الكعك على الطريق السريع مفتوحاً، وسيستمر على النمط الذي لطالما تبِعه، وهو بيع الكعك للزبائن مباشرةً. لكنك تنشئ موقعاً إلكترونياً يُتيح لكل من يدخله الحصول على الكعك بالمجان تماماً.

إذا عرضتَ هذه الفكرة التجارية في برنامج "عرين التنين"، فستسبّب على الأرجح بموجة غضب عارم لدى ديبورا ميدن التي ستوبّخك بشدة. ومع ذلك، هذه هي الطريقة التي أقبلت بها الصحف على الإنترنت.

لنتقدّم الآن بسرعة إلى 2019، حالما نرى صانع الكعك المتهالِك متّكئاً إلى جدران محلِّه القديم (الذي أصبح الآن مقهى حِرَفياً لحُبيبات الشوكولاته المقرمِشة)، ندرك أن أيّ شخصٍ يبلغ سن الرشد هذا العام، سيكون أمضى حياته كاملة وهو يعتقد أنَّ دفع النقود مقابل الأخبار فكرةٌ غريبةٌ.

لا تعاني مبيعات الصحف والمجلات الورقية عاماً بعد عامٍ تراجعاً حاداً فحسب، بل إنها تهبط.

لا يحبّذ كثيرٌ من القراء دفع بضعة جنيهات لشراء صحيفة ورقية، في وقت بإمكانهم قراءة كثيرٍ من الأخبار الموجودة في الصحف الورقية عن طريق هواتفهم مجاناً.

لذا، لا يسعُنا سوى الاستنتاج أنَّ قرار المجموعات الصحفية نشر محتواها مجاناً عبر الإنترنت كان أكبر غلطة اقترفها هذا القطاع على الإطلاق، وحالما يعتاد الناس الحصولَ على شيءٍ ما من دون مقابل، يصبح إقناعهم بأنّ لهذا الشيء قيمة أمراً بالغ الصعوبة.

ليس وراء تراجع الإعلام الورقي خسارة الأموال الناتجة من الانخفاض الحاد في عدد النسخ المبيعة فقط، إذ لم تشكِّل المبالغ البسيطة التي يدفعها الناس في محالّ بيع الصحف مقابل صحيفة في أي وقتٍ حصة الأسد من عائدات الصحف، فهذه الحصة كان مصدرها الإعلانات.

كان أكبر المعلنين في الصحف المحلية هو الثالوث المكوّن من إعلانات الوظائف والبيوت والسيارات.

ويتذكر كثيرون اليومَ الذي تضاعف فيه حجم صحيفتهم المحلية بعدما امتلأت بملاحق إعلانية كبيرة ملحقة بها وتحوي العديد من صفحاتِ إعلان الوظائف الشاغرة والبيوت والسيارات المعروضة للبيع.

ولكن هذه الأسواق الثلاث ادركت بين ليلة وضحاها أنّ بإمكانها نشر إعلاناتها على الإنترنت مقابل جزءٍ ضئيلٍ مما اعتادت دفعه، مع فرصة كبيرة للتوسع والوصول إلى المستهلك. لذا، عندما أخذت عائدات الإعلانات هذه في الهبوط، بدأت معاناة الصحف.

لم يكتفِ "فيسبوك" و "غوغل" بالقضاء على وسائل الاعلام المطبوعة، بل لعِبا أيضاً دورهما في الفتك بالمؤسسات الإعلامية الجديدة التي برزت آنذاك في وقت كانت وسائل الإعلام الرئيسة تكافح لمعرفة كيفية التعامل مع الشبكة العنكبوتية العالمية.

شهدت مواقع عدة، مثل "بازفيد" و"هافينغتون بوست"، إقبالاً من المستخدمين الأصغر سناً، الذين لم تكن الصحافة التقليدية وازنة كما كانت في جيل الأهل، من هذه المواقع مجلة "فايس" التي حوّلت مجلتها المطبوعة الخفيفة وغير الجدية وذات اللغة السليطة في تسعينيات القرن الماضي إلى منصة إعلامية إلكترونية.

وكذلك موقع "ذي بول" الخاص بالمواضيع التي تهم المرأة، والذي أنشأته المذيعة لورين لافيرن ومحررة المجلات الحيوية سام بيكر عام 2015، إذ نجح في جذب مجموعة كبيرة من القرّاء المخلصين.

ووفرت هذه المنصات بديلاً من الحرس القديم لعالم الصحافة، ووظفت بعض أفضل الكتّاب. وعمل كثير من الكتّاب في المنصات الإلكترونية لأنجح وسائل الإعلام التقليدية، مثل صحيفة الغارديان على وجه التحديد، لكن تيار التوظيف سار في الاتجاه الآخر، فقد وجد أولئك الذين خطوا خطواتهم الأولى في "بازفيد" أو "هافينغتون بوست" وظائف في وسائل الإعلام التقليدية البارزة.

وطوال سنوات، بدا وكأن الأخبار الإلكترونية والتحقيقات الصحافية المطوّلة والتعليقات والصحافة المصوّرة، قد مضت ترسّخ نفسها في القطاع الجديد، مثل صحيفة "دايلي ميل" التي ظلت مدةً طويلةً صوتَ الصحافة المطبوعة المحافِظة في وسط إنكلترا.

وهذه تمكنت من جذب جمهورٍ شابٍ عبر نشرِها سيلاً لا ينقطع من أخبار المشاهير وثرثراتهم، وتسليط الضوء على ترهّل أفخاذ النساء المشهورات.

هذا بالإضافة إلى مؤسستنا هذه، "اندبندنت"، التي أوقفت إصدار نسختها المطبوعة وحوّلت نفسها كاملةً إلى منصة إلكترونية من خلال موقع إلكتروني تقليديّ وتطبيقٍ إلكتروني قائمٍ على الاشتراكات.

أعلن "بازفيد،" الشهر الماضي، أنه سيسرح 15 في المئة من العاملين لديه، أي ما يقارب 250 شخصاً، وأعلنت شركة "فيريزون"التي تملك "هافينغتون بوست" بالإضافة إلى منصّتَي "ياهو" و "إيه أو إل"، أنها أقالت 800 من موظفيها في أنحاء العالم، وفي نهاية يناير (كانون الثاني)، حجزت المحكمة على"ذي بول" بعد ورود العديد من الشكاوى بشأن عدم تقاضي طاقم العاملين فيه والمُستكتبين مستحقاتهم.

أبلغ دومينيك هيل، آخر مديري موقع "ذي بول"، طاقمَ العمل أنّ الشركة التي بلغت خسائرها المعلَنة 1.8 مليون جنيه استرليني العام الماليّ الماضي، أفلست رسمياً وأن جميع خطط إنقاذها استُنفدت.

وقال رئيس"بازفيد" جونا بيريتي إنّ نموّ الأرباح ليس كبيراً على نحوٍ كافٍ ليكون مستداماً على المدى الطويل.

يبدو أن الإنترنت، على الرغم من أنه لا متناه، فإنّ المبالغ المالية المستخدمة في شباكه محدودة. تماماً كما شهدت وسائل الإعلام التقليدية تسرّب أموال الإعلانات من بين أيديها إلى المنصات الوليدة على الإنترنت، فإنّ هذه المنصّات الجديدة تعاني أيضاً امتصاصَ عمالقة الانترنت مثل "فيسبوك" وغوغل"، ونموهما مطرد إلى ما لا نهاية، حصّتها من الأرباح، شأن غيرهما من المنافسين. وحين يتلاشى المال، ترتكّز إجراءات توفير النفقات غالباً على أكثر الأقسام تكلفة في أية مؤسسة إعلامية، وهو التحرير.

لا تعني قراءتك الموادَّ الصحافية مجاناً، أنها أُنتِجَت مجاناً.

الصحافة تكلّف مالاً، سواء لدفع مرتّبات الموظفين أو المُستكتبين والعمال المياومين، كل قطعة محتوى تقرؤها دُفِع مقابلها مبلغ ماليّ بطريقة أو أخرى من جيب الجهة التي توفر لك هذا المحتوى.

لذلك، إن لم تتمكن هذه الجهات من أن تجني الأرباح من الإعلانات، أو عبر طرائق أخرى مثل الاشتراكات وعروض العضوية وما إلى ذلك، فلن تستطيع دفع مستحقات الصحافيين، وإذا لم يحصل الصحافيون على مستحقاتهم، فلن يقوموا بعملهم.

الآن، عندما يقرأ شخصٌ هذا الكلام، سيقول في قرارة نفسه "لكن يجب أن تكون المعلومات حرّة!"

هذا هو التيّار السائد الآن، في الأقل من وجهة نظر الكاتب والناشط ستيوارت براند، الذي ابتدع هذه العبارة خلال مؤتمرٍ لِقراصنة أجهزة الحاسوب في 1984، وإن كانت عبارةً غامضةً تثير الكثير من الجدَل.

يفهم البعض أنّ المقصود منها هو أنّ تدفّق المعلومات ينبغي أن يكون حراً وبلا قيود، بخاصة في ما يتعلق بمصالح الحكومات والشركات.

في حين يرى آخرون أنها تعني وجوبَ أن تكون المعلومات- حرفياً - متاحة من دون أيّ تكلفة على الإطلاق.

ربما تكون سلسلة الأفكار الأخيرة منطقية، لا سيّما إذا أخذنا في الاعتبار أنّ عملية اكتساب المعرفة ينبغي أن تكون عادلة وتراعي تكافؤ الفرص، إذا لم تستطع تحمّل تكاليف الوصول إلى الأخبار، فهل يعني هذا أنّك لا تملك حق قراءتها، في حين أنّ من يملكون القدرة على الدفع يمكنهم ذلك؟ ألا يولّد هذا مزيداً من الانقسامات في المجتمع؟.

مع ذلك، لطالما كانت الأمور على هذه الحال. في مرحلة ما قبل الإنترنت، كان من المحال الوصول إلى الأخبار الصحفية من دون دفع مقابلٍ بطريقة أو بأخرى.

وأسعار الصحف كانت تنشر على أغلفتها، أما في ما يتعلق بشبكة أخبار الـ"بي بي سي" فالأمر مرهون بدفع رسوم ترخيص استقبال البث، ولكن، ماذا عن محطات الإذاعة والقنوات التلفزيونية التجارية، أو الصحف المجانية التي يُزج بها في صندوق بريدك؟ أنت "تدفع" مقابلها من خلال تحملك المستمر لاستقبال الإعلانات.

لم تكن المعلومات في الصحافة مجانيةً يوماً، وذلك لأن الأمور تقتضي دفع المال لأشخاص مقابل إنتاجها.

ومع استخدام طريقة التمويل التقليدية، عائدات الإعلانات، في منصّات لا تستثمرها من جديد في مجال الصحافة، فما الذي يُنتظر أن يحدث؟

قد يكون الجواب هو موت وذبول الصحافة كما نعرفها اليوم، لن تتوقف الأخبار، أو في الأقل الأحداث التي تصبح أخباراً، عن الحدوث.

لكن، إذا سقطت شجرة في غابة، ولم يكن أحد موجوداً لكتابة خبر شائق من ألف كلمة عما حدث، فهل يسمع الناس بالخبر؟ لن يبلغنا الخبر أبداً قبل أن نجد الجذع على الأرض.

إذا لم يعد ثمة صحافيون مدرَّبون، وإذا سقطت المؤسسات الإعلامية، فلن تغيب الأخبار غياباً كاملاً، لأن المعلومات (مثلها مثل الطبيعة) تمقت الفراغ.

لكن من أين ستأتي تلك المعلومات؟ ومَن سيجمعها؟ ولأيّ غرضٍ سيفعل ذلك؟ مَن الذي سيجني أرباحاً من قراءتك لها، وما هي طريقة الربح؟

الأرقام التي تدل على مدى انتشار وسائل الإعلام المطبوعة قد سقطت من أعلى منحدر، وهذا ما حدث فعلاً، إلا أنها لم ترتطم بصخور القاع بعد، ولم تتكسّر إلى قطعٍ صغيرة.

لا تزال مجموعة من الناس (وربما هم من جيل ولّى زمانه) مستعدة للدفع من أجل الحصول على نسخ ورقية للصحف والمجلات، وربما يضطر الذين لا يرغبون في شراء الصحف الورقية، ويفضّلون قراءة صحافة عبر الإنترنت مجاناً، إلى مواجهة حقيقة أن عليهم ربما البدء بدفع المال أيضاً.

ربما كانت المعلومات تتوق إلى الحرية قبل 35 عاماً، لكن الآن، نحن الذين نطالب بأن تكون المعلومات مجانية، لأن كثيرين منا لم يعرفوا قط طريقةً أخرى للحصول عليها.

أو ربّما ثمة سبيل الى التراجع، فقد اعتدنا أن تنتهي القصص القديمة دائماً بإعادة المارد إلى القمقم. وعلى الرغم من الحكمة المتداولة والقائلة إنّك لا تستطيع مطالبة شخص ما بدفع مقابلٍ ماديٍ لشيءٍ منحتَه إياه مجاناً في بادئ الأمر، فإن هذا تحديداً ما تفعله العديد من المؤسسات الإعلامية.

تستخدم الصحف البريطانية مثل "التايمز" حاجزاً إلكترونياً يقف حائلاً بين الذين  لم يدفعوا للاشتراك في الموقع وبين قراءة المقالات الكاملة.

وتدير "التليغراف" نظاماً يسمح للمشتركين فقط بالاطلاع على محتواها المتميز، في حين يمتلك موقع "اندبندنت" تطبيق النسخة اليومية، "دايلي إيديشن"، ويعرض على القراء خدمة "اندبندنت مايندز"، وهذه تمنح المشتركين محتوىً إضافياً وحصرياً، وإمكان الوصول إلى الأحداث وغيرها من الامتيازات.

وأعلنت مجلة التكنولوجيا "وايرد" العام الماضي اعتمادها نظامَ الاشتراك لقراءة المحتوى الجديد، لكن أكبر نجاحٍ حتى الآن، حققته صحيفة "نيويورك تايمز."

أعلنت صحيفة "نيويورك تايمز" في السادس من فبراير (شباط) أرباحها لعام 2018، وبثّت بهذا الإعلان الأملَ في نفوس الكثيرين في هذا المجال، إذ بشّرتهم بأنّ الصحافة الرقمية المدفوعة الأجر قد لا تكون مجرد حلمٍ خياليٍ مثلما تخوّفَ البعض.

 فأرباح "نيويورك تايمز" الرقمية قفزت إلى 709 ملايين دولار لهذا العام، شاملةً الأرباح التي تجنيها الصحيفة من الذين يدفعون مقابل الاشتراكات الرقمية والمنتجات المرتبطة بها.

علماً أنه خلال 2018، دفع 4.3 مليون شخص مقابل الدخول إلى موقع الصحيفة والاطلاع على محتواها عبر الإنترنت، بزيادةٍ قدرها 27 في المئة عن العام السابق.

وثمة إنجاز بارز آخر طالما عملت الصحف جاهدةً لتحقيقه منذ اللحظات الأولى لميلاد الإنترنت، وهو تحقيق أرباحٍ من الإعلانات عبر الإنترنت، حققت هذه الإعلانات الإلكترونية أرباحاً تقدّر بـ 103 ملايين دولار في الرُبع الأخير من عام 2018، متجاوزةً بذلك للمرة الأولى أرباح الإعلانات في النسخة المطبوعة (88 مليون دولار للفترة نفسها)، وليست هذه الحالة الوحيدة، ففي نوفمبر (تشرين الثاني)، أعلنت صحيفة "دايلي ميل"وصولها إلى المنعطف نفسه. قد تكون هذه ملاحظةً جانبيةً مهمةً بالنسبة إلى القضية برمتها، إذ توقع البعض قبل وقت طويل أنّه بمجرد أن تحقق المؤسسات الإخبارية التقليدية أرباحاً وفق سقف توقعاتها من الإعلانات الإلكترونية، سيعني ذلك حكماً بالموت على المنتجات المطبوعة والمكلفة.

عقب حجز المحكمة على مجلة "ذي بول" علّق كثيرٌ من القراء المتحمّسين على وسائل التواصل الاجتماعي، وقالوا إنهم لم يكونوا ليمانعوا دفع ثمن مجلةٍ شهريةٍ حيوية مطبوعة لقراءة محتواها المميز.

قد يمثل هذا مستقبل الصحافة الإلكترونية وكيفية استهلاكنا لها، هذا إذا كنا نأمل أن تستمر في النشر