نزار جاف
ليس أي شئ كالفكر والمعتقد من حيث تأثيره على الانسان وتغيير طباعه والخط والمسار العام لحياته، ولكن ليس كل فكر وكل معتقد، إذ أن هناك ثمة ملاحظة مهمة وهي إن الافكار والمعتقدات تتطلب قدرا كبيرا من قوة الاقناع ولفت النظر إليها، وذلك ما يتجلى دائما فيما تقدمه هذه الافكار والمعتقدات للإنسان وتعينه في الحياة التي يعيشها لمرة واحدة.
الاديان كأقدم المعتقدات التي تعرف عليها الانسان ولجأ إليها بدافع وحشة الطبيعة وقسوة الحياة وصعوبتها ولاسيما بعد أن طرحت حياة أبدية سواء كنعيم أو كشقاء وعذاب، وكلاهما كانا جنبا الى جنب بمثابة حافزين مهمين لجر أقدام الانسان لعالم الاديان طمعا أو رهبا، والافكار الانسانية أو كما يصفها المتدينون بالافكار الوضعية، هي الاخرى وبعد التطور الذي حصل في الحضارات القديمة ووصولا الى عصر النهضة كان لها قسط كبير الى جانب الاديان من حيث التأثير على الانسان.
الاديان وإن تم نشر أهمها بالقوة وتم فرضها على الامم والشعوب المختلفة، لكن الفكر بصورة عامة، لم يتم فرضه بالاكراه، بل إن الانسان كان مخيرا فيه وليس مجبرا، فالذي ينحدر من أبوين يعتنقان أي دين سيكون بالضرورة القهرية على دينهما أو على دين أحدهما إن كانا من دينين مختلفين، لكن الانسان عندما يطلع على فكر معين ويٶخذ به فإنه يٶمن به تلقائيا وبقناعة من أعماقه ولاسيما إن كان هذا الفكر واقعيا ويرى الانسان فيه خيرا وفائدة لنفسه أو للبشرية.
الفكر الشيوعي، والذي يمكن القول بأنه أكبر إنجاز إنساني قبالة المعتقد الديني أو حتى الافكار المتداعية عن المعتقدات الدينية، وهنا لسنا نبجل الفكر الشيوعي وإنما نلفت النظر الى قوة إنتشاره وصيرورته "خلال القرن العشرين" غولا يهدد ليس الاديان فقط بل وحتى الفكر الليبرالي والدول التي تٶمن بهذا الفكر، إذ أن الشيوعية توغلت بقوة وإندفاع بين صفوف معظم الامم المعتنقة للأديان كما توغلت أيضا في البلدان الليبرالية، وها هو الرئيس الامريكي أيزنهاور في عام 1957، وبعد الانسحاب البريطاني من البلدان العربية يلجأ الى طرح مبدئه الخاص من أجل تحصين هذه البلدان ضد الشيوعية والحرص على عدم إنتشارها.
بيد إن الخطر والتهديد الشيوعي لم يقف عند هذا الحد ولاسيما بعد أن أصبحت معظم الدول التي حررها الجيش الاحمر من النازيين أبان الحرب العالمية الثانية شيوعية بالاكراه ورغما عنها، بل إن الفكر الشيوعي ومن خلال نظرية "الثورة الدائمة" لأحد أقطاب الثورة البلشفية "ليون تروتسكي"، قد دعا الى ضرورة أن تتجاوز الثورة البلشفية التي أسقطت الحكم القيصري في روسيا عام 1917، حدود روسيا الى أنحاء العالم حتى تصبح هناك ثورة عالمية تضع البشرية كلها في السلة الشيوعية.
قبل الثورة البلشفية، كانت الثورة الفرنسية (1789 و1799)، التي إقتصرت على فرنسا ولم تكن تأثيراتها على العالم بالقوة وإنما بالاقتناع والايمان بنبل وسمو الافكار التي دعت إليها، ولكن الثورة الايرانية عام 1979، وبعد أن طغت عليها الصبغة الدينية، إرتفعت الاصوات عاليا للعمل من أجل تصدير الثورة وليس إستمرارها لتشمل العالم كله كما دعى تروتسكي، وتصدير الثورة الذي يمكن القول بأن الخميني هو من نادى وأسس له وحتى إن تركيزه على العراق وإصراره على تجاهل مساعي نظام حزب البعث من أجل التعاون والتنسيق خصوصا وإن العراق كان من أوائل البلدان التي هنأت الخميني بإنتصار الثورة، خير مثال على ذلك.
تصدير الثورة ليس كنظرية الثورة الدائمة وإن كان كلاهما في الاساس خطين ونهجين تخريبيين غير بنائين، إذ أن الثانية كانت علنية وتسعى للعمل بصورة مكشوفة وليس على طريقة الاولى المتسمة بالاسلوب التمويهي والتآمري البحت، وثمة ملاحظة مهمة جدا لا بد من أخذها بنظر الاعتبار والاهمية البالغة، وهي إن نظرية الثورة الدائمة وإن كانت تهدف في النهاية الى بناء مجتمعات شيوعية كالتي في روسيا (الاتحاد السوفياتي سابقا)، بمعنى إنها ستستقر في نهاية المطاف لكن في مبدأ تصدير الثورة فإن الامر يختلف، إذ يسعى الخمينيون الى إبقاء المناطق التي تتأثر بطروحتهم غير مستقرة وفي حالة توتر مستمر وحتى مصدر عدم إستقرار للبلدان المجاورة لها كما نجد في العراق ولبنان واليمن وسوريا خير أمثلة على ذلك.
وبطبيعة الحال فإن إبقاء عدم الاستقرار في هذه البلدان وكذلك السعي لنقلها الى بلدان أخرى ليس عملا إعتباطيا بل إنه ناجم عن تحريف مثير في واحد من أهم ركائز المعتقد الشيعي بخصوص التمهيد لظهور الامام الثاني عشر (المهدي المنتظر)، إذ كما جاء عن عبدالله أبن عمر أن النبي "ص" قال: يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا"، وقد ساد ويسود في الاوساط الحاكمة في إيران وكذلك بين أتباعهم في البلدان الخاضعة لنفوذهم تصور زرعه الخمينيون مفاده إن العمل على إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في العالم من شأنه أن يعجل بظهور (الامام المهدي)، مع إن معظم الاحاديث الورادة لا تدعو الى إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار فالاسلام دين حضارة ومدنية ويحث على السلام والامن والاستقرار وحتى إن سورة "إيلاف" خير مثال على ذلك إذ جاء فيها (لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف)، وقطعا فإن المعتقد الشيعي برئ براءة الذئب من دم يوسف من هذا الذي فعله ويفعله الخمينيون.
ملاحظة أخيرة؛ كما إن الشيوعية التي فرضت بالقوة من قبل ستالين على العديد من البلدان الاوربية قد تبخر تأثيرها مع تفكك الاتحاد الاتحاد السوفياتي وقبله ذوبان وتلاشي نظرية الثورة الدائمة لعدم واقعيتها، فإن مبدأ تصدير الثورة المزعوم وما يهدف إليه سيمضي الى زوال ولاأدري هنا هل إن زواله سيكون قبل أم بعد سقوط النظام الايراني؟!