وليد فارس
في المقالة السابقة كتبنا عن محاولات "الجمهورية الإسلامية" لإقامة الجسر الجيوسياسي العسكري بين إيران وشرق البحر الأبيض المتوسط لعقود، منذ حرب الخليج الأولى مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والحرب الثانية في الكويت، والاجتياح الأميركي للعراق والانسحاب منه، إلى دحر "داعش" من الجسر وإقامته من جديد بعد الانسحاب الأميركي الثاني من العراق، وإعادة بناء جسر إيراني من جديد عبر ثغرة بين البوكمال في شمال الحدود العراقية السورية والتنف جنوباً.
وتعمل قوى المحور على إبقاء "الجسر" قائماً لأسباب عديدة تتعلق بسيطرة النظام على ثلاثة دول هي العراق وسوريا ولبنان، وكل ما ينتج من هذه السيطرة من مصالح هائلة.
واستمرت الحراسة الإيرانية على الجسر حتى بدأت تحركات أميركية تشير إلى احتمال، وليس حتى قرار أميركي بقطعه (أي الجسر) عبر إقامة مراكز ميدانية عليه تمهيداً لانتشار محتمل للائتلاف الدولي بهدف قطع هذا الطريق السريع بين طهران والضاحية الجنوبية لبيروت، وحتى ولو كان احتمالاً فهو خط أحمر عريض لا يمكن اختراقه مهما كان السبب، فماذا يفعل النظام لإنقاذ الجسر؟
نظرة طهران
كما سردنا في المقالة السابقة فلقد تحول الممر الجيوسياسي للنظام إلى المتوسط الشرط الأساس لتحول الجمهورية الإسلامية إلى قوة إقليمية مميزة في طريقها لكي تتحول إلى قوة عالمية تضاهي فرنسا وبريطانيا، لا سيما أنها تخطط للسيطرة على نفط العراق وسوريا وغاز لبنان بمشاركة محورها، لذا إذا قطع الأميركيون الشريان الاستراتيجي لطهران مع المتوسط فسيسقط المشروع الإمبريالي للخمينية، ومن هنا يبدو واضحاً أن النظام سيفعل أي شيء لمنع انهيار الجسر من جديد.
الدفاع عبر الهجوم
الفصل الأول في استراتيجية طهران لحماية الممر هو شن الهجوم الاستباقي من كل المحاور ضد استقرار القوات الأميركية في العراق وسوريا، وأهم الوسائل لضرب هذا الاستقرار هو إضعاف حلفائها وزرع الفتن بينهم، وهذا ما بدأ يظهر منذ فترة على خط سوريا الشرقية، بخاصة تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وتضم أكثرية كردية، إضافة إلى عرب سنة معادين للنظامين في دمشق وطهران، وسريان وآشوريين مسيحيين.
قوات سوريا الديمقراطية تسيطر على المساحات الواسعة من شمال الأراضي السورية من الرقة إلى باغوز بالقرب من الحدود مع العراق، وتكون العشائر العربية السنية جزءاً كبيراً من الأهالي في الحسكة، بخاصة في شرق تلك المنطقة المتاخمة للحدود العراقية.
وتقضي الاستراتيجية الإيرانية ببث الخلاف بين العشائر التي قاتلت "داعش" وعارضت النظام وبين "قسد"، والهدف من ذلك هو تفجير مواجهة بين العرب والكورد في شرق سوريا مما سيهدد وحدة القوى المعارضة "للمحور" المطلوبة لإحكام القبضة الأميركية على الحدود العراقية السورية، بما معناه أن الأجهزة الإيرانية تعمل عبر شبكاتها داخل الطرفين لدفعهما للانقسام، وإذا حصل ذلك، يخسر البنتاغون قدراته الشمالية على الحدود العراقية-السورية.
أما على محور جنوب الحدود المشتركة، أي منطقة التنف، فالعشائر العربية بعيدة من الكورد وعرب الحسكة وأقرب عملياً إلى الأردن ودول التحالف العربي، وتعمل بقوة مع الأميركيين والتحالف، وليس هنالك من قلق من اختراقات إيرانية كبيرة عبرها.
عشائر الجنوب السوري من دون "قسد" وعرب الشمال السوري غير قادرة على توفير القاعدة الشعبية الكاملة للقوات الأميركية لإغلاق الحدود في وجه إيران، لذا فما يجري في "جزيرة الحسكة" يمكن أن يعطل المقصل الأميركي للهلال الخصيب، فإذا وقعت مواجهات واسعة بين الكورد وبعض العشائر العربية ستدب الفوضى في الحسكة وتفقد واشنطن قدرتها على ردع إيران، ولكن نشر الفتنة بين "قسد" والميليشيات المعارضة لها لا يبدو أنه من صنع إيران فقط.
ذراع الإخوان
أفادت التقارير على مدى سنوات أن التيار الإسلاموي، وفي وسطه القوى الإخوانية في الشمال السوري اجتهدت لمد نفوذها إلى داخل مناطق "سوريا الديمقراطية" أي عملياً شمال شرقي سوريا لتمكن الميليشيات التابعة لها من الوصول إلى الحدود العراقية وعبرها إلى الأنبار و"المثلث السني"، لكن ما هو هدفها؟ إقامة دولة إسلامية في وسط الهلال الخصيب، وهل أكثرية سنة شرق سوريا سيوافقون على هذا المشروع؟
كل الدلائل تشير إلى عكس ذلك، فهذه العشائر معارضة للنظام وقاتلت "داعش" والميليشيات التكفيرية وحالفت الأميركيين في تصديهم للشبكات المتطرفة لسنوات عدة، كما فعلت ولا تزال قبائل التنف والجنوب.
العشائر العربية في شرق وجنوب سوريا تريد أن تبقى حليفة للولايات المتحدة ومعارضة لإيران و"داعش"، ولكنها تريد أن تحكم نفسها لا أن تكون محكومة من "قسد"، لذا فهنالك مشكلة قائمة بين مجالس العشائر والسلطة في "سوريا الحرة"، وهذه هي الثغرة التي تهدف الميليشيات الإخوانية إلى الدخول عبرها إلى شرق البلاد، ومن هنا نفهم كيف أعلنت القوى الإسلاموية المتموقعة في غرب سوريا تحت مظلة الحكومة التركية، تضامنها مع العشائر في شرق البلاد ضد "العدو المشترك" أي "قسد".
الجماعات الإخوانية تعتقد أن خلاف عشائر الشرق مع أكراد سوريا سوف يدفعهم للاتحاد مع إسلاميي غرب سوريا فيتوحدون معهم ضد الكورد ونظام الأسد، ولكن العشائر العربية ليست محبذة لا للإخوان ولا "داعش"، ومعارضة العشائر لـ "قسد" هي حول إدارة "سوريا الحرة" وليس بهدف إقامة "إمارة إخوانية"، وهذا الخلاف الكردي العربي على الأميركيين أن يحلوه من ضمن التحالف الدولي وليس انضماماً للعشائر إلى ميليشيات الشمال الإسلاموية.
الأهداف الإيرانية
عدد من المحللين غير المخضرمين سواء كانوا في الشرق الأوسط أو الولايات المتحدة لا يفهمون لماذا تسمح إيران "الشيعية" بأن تنتصر الجماعات الإخوانية "السنية" في شرق سوريا، والجواب بسيط بالنسبة إلى الذين عاشوا تاريخ الاستراتيجيات الإيرانية، فطهران ليست لديها مشكلة إذا استغلت صراعاً طائفياً أو قومياً أو حتى على السلطة لدى خصومها، ولا معوقات إطلاقاً لدى الدولة الخمينية أن تقيم علاقات استراتيجية مع "حماس" "السنية" ما دام ذلك يخدم الهدف.
بالمنطق نفسه لا مانع لدى القيادة الإيرانية أن ترى الإخوان يخترقون العشائر أو يعبئونهم ضد الإدارة الذاتية، وإن كانت الاستخبارات الإيرانية تنسج علاقات مع حزب العمال الكردستاني حليف وحدات حماية الشعب في الوقت نفسه، فالنظام الإيراني لديه القدرة المناوراتية أن يدير الطرفين العرب والكورد، وداخل العرب الإخوان والمعتدلين، لكي يتواجهوا من أجل هدف أعلى وهو انهيار "التحالف المحلي" الذي يساعد الأميركيين على ضبط الحدود بين سوريا والعراق.
بالتالي فإن طهران تسعى لضرب العشائر بالكورد، والسماح للإخوان بالتدخل لتعميق الصراع بين الطرفين، كل ذلك لثني الأميركيين عن مشروع قطع الهلال على تلك الحدود، وفي ما بعد دفع الولايات المتحدة للانسحاب كلياً من الهلال الخصيب.
أما بعد ذلك، فسيركز الحرس الثوري على ضرب أو استيعاب كل المكونات بدءاً من العشائر العربية وبعدها "قسد" وعرب التنف ومن ثم الإخوان للوصول إلى مستعمرة سورية خمينية خالصة، فالأولوية الآن لهدم الجدار الأميركي حجرة بعد حجرة.