تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

لوركا قيثارة غرناطة المكسورة

فيدريكو غارثيا لورك
AvaToday caption
يتناول المؤلف الشاعر في لوركا، وهو ما يطبع شخصيّته ويقترن باسمه. ويرسم الخط البياني لإبداعه الشعري الذي يبدأ بـ"كتاب القصائد" في العام 1921، وينتهي بـ"نجوى الحب المحزون"
posted onApril 17, 2023
noتعليق

على الرّغم من مرور حوالى تسعة عقود على غياب الشاعر الإسباني فيدريكو غارثيا لوركا في العام 1936، فإنه لا يزال حاضراً في المشهد الثقافي العالمي، فيُنظّم بين الفينة والأخرى ما يتعلّق به من الأنشطة، ويصدر ما يذكّر به من الكتب، مما يجعله عصياًّ على الغياب. ولعل كتاب "قيثارة غرناطة فيدريكو غارسيا لوركا"، الصادر حديثاً عن " مؤسّسة الانتشار العربي" و"النادي الأدبي الثقافي في الحدود الشمالية"، للكاتب السعودي سعد عبدالله الغريبي، هو آخر ما صدر في هذا الإطار. والغريبي باحث وشاعر وروائي ورحّالة سعودي، صدر له عشرون كتاباً آخرها موضوع هذه القراءة.

في "قيثارة غرناطة" نحن إزاء كتاب يتناول فيه صاحبه السيرة الأدبية للشاعر الإسباني، ويشفعها بمجموعة من تعليقات متابعي سيرته، ومجموعة أخرى من تأملات دارسيها، مما يضيف بعداً توثيقياًّ إلى البعد السِّيَري للكتاب. على أن ما حدا بالمؤلف إلى وضعه مشاركته في رحلة ثقافية، نظّمتها مؤسّسة "ألمكي مورسيا الدولية للثقافة" في إسبانيا، عام 2019، وشارك فيها قرابة خمسين مشاركاً من العاملين في حقلي الثقافة والأعمال، وامتدت من ضاحية فوينلابرادا جنوب مدريد إلى غرناطة، مروراً ببعض القرى والمدن الصغيرة، وتسنّت للمؤلف خلال هذه الرحلة مجموعة قراءات ومشاهدات ومسموعات شكّلت مادة أوّلية للانطلاق في مشروعه. حتى إذا ما حكمت عليه جائحة كورونا بالحجر المنزلي، انكبّ على وضعه موضع التنفيذ، وأنجزه في فبراير 2022.

لم يضع المؤلف كتابه في فصول متعاقبة بل وضعها في مراحل، عمرية وأدبية، نرصد من خلالها حركة الخط البياني الإبداعي للشاعر والمسرحي، التي تبلغ الذروة في السنوات الأخيرة من عمره القصير. وهو، في رسمه الخط البياني لرحلة لوركا الإبداعية، يستند إلى ما ينوف عن الثلاثين مرجعاً، ويطلع على عدد كبير من شهادات متابعي رحلته ودارسي أدبه، مما يجعل الكتاب في منزلة بين منزلتي السيرة، بما هي نوع أدبي، والبحث، بما هو نوع علمي. وبذلك، يجمع بين طلاوة السيرة وصرامة البحث، ويجاور بين المتعة والفائدة.

بمواكبة الخط البياني المرسوم، نتعرّف إلى لوركا في مراحله العمرية والأدبية المتعاقبة، بدءاً من مرحلة الطفولة، مروراً بمراحل أخرى شهدت صعوده الإبداعي، المتدرّج من المحلية إلى العالمية، وانتهاءً بمرحلة الوصول إلى المحطة الأخيرة. والمفارق أن هذه المراحل المختلفة لم تزد عن ثمانية وثلاثين عاماً، هي عمر الشاعر القصير، لكنها تمخّضت عن نشاط ثقافي محموم، وشخصية مركّبة على بساطتها. يتفاعل فيها الإنسان والشاعر والمسرحي. وينجم عن هذا التفاعل اثنتا عشرة مجموعة شعرية، عشر مسرحيات، والعديد من الأنشطة الثقافية المختلفة. فلوركا "بدأ ناثراً حين ألّف مذكرات رحلاته المدرسية ونشرها في كتاب "انطباعات ومناظر" سنة 1918، وكاتباً مسرحياًّ لمسرحية خيّبت ظنّه، لكنها لم تؤثر في طموحه، ثم شاعراً في ديوانه الأول "كتاب القصائد" الذي أصدره في عام 1921"، على حدّ إشارة المؤلف (ص 62). وهكذا، يتبيّن لنا أن لوركا بدأ نشاطه الإبداعي في سنٍّ مبكرة، وزاوله بوتيرة محمومة، وهو ما يفسّره صدور ثلاثة وعشرين كتاباً ، خلال ثمانية عشر عاماً، ناهيك بأنشطة ثقافية أخرى، تراوحت بين تأسيس حركة أدبية، وإنشاء فرقة مسرحية، وتنظيم أندية للثقافة المسرحية في المدن، وإصدار مجلة أدبية، وإلقاء المحاضرات، والقيام برحلات ثقافية مختلفة... وهذا يعني أننا إزاء حياة قصيرة زمنياًّ لكنها طويلة إبداعياًّ، وإزاء شخصية غنية بأبعادها، الإنساني والشعري والزمني.

في البعد الأول، يتناول المؤلف حياة لوركا بين  محطتي الولادة والموت، وما بينهما من محطات أخرى كان لها أبلغ الأثر في شخصيته ونتاجه الإبداعي. وفي هذا السياق، يمكن رصد الوقائع الآتية:  ولادته في الخامس من يونيو (حزيران) 1898، في قرية فوينتي فاكيروس من أعمال غرناطة، لأبٍ فلّاح يملك الأراضي هو فيدريكو غارسيا رودريغز، وأمٍّ مدرّسة موسيقى هي فيسنتا لوركا روميرو. نشأته في بيئة زاخرة بالأساطير والحكايات الشعبية، وغنية بالمشاهد الطبيعية الريفية الخلابة. تنقّله بين مدارس عدة في القرية والجوار وغرناطة. دراسته الحقوق والآداب في جامعتي غرناطة ومدريد. غرامه بالرسم والموسيقى. قيامه برحلات كثيرة داخلية وخارجية. تعاطفه مع الفقراء والغجر والسود ومعالجة قضاياهم شعراً ومسرحاً. تعالقه مع كبار الأدباء والفنانين. قراءته عيون الأدب الإسباني وأعمال الرومنسيين. تأسيس حركة جيل 27 الأدبية. إنشاء "مسرح الكوخ". إصدار مجلة "الديك". انحيازه إلى الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية. القبض عليه وإعدامه في العام 1936 وعدم العثور على رفاته، وسواها من الوقائع التي لا يتّسع المجال لذكرها.

في البعد الثاني، يتناول المؤلف الشاعر في لوركا، وهو ما يطبع شخصيّته ويقترن باسمه.  ويرسم الخط البياني لإبداعه الشعري الذي يبدأ بـ"كتاب القصائد" في العام 1921، وينتهي بـ"نجوى الحب المحزون" الذي كتبه في العام 1935، وصدر بعد مقتله بحوالى نصف قرن في العام 1984. ويبلغ هذا الخط الذروة بـ"شاعر في نيويورك" الذي كتبه صاحبه بين عامي 1929 و1930، وصدر بعد رحيله بأربع سنوات في العام 1940، واعتبره كثير من النقاد أعظم إنجازات لوركا. ولعل أبرز الثيمات التي تنتظم شعره هي: الطفولة، الطبيعة، الريف، البيئة الأندلسية، العزلة والوحدة، مأساة الغجر، معاناة السود، صدمة المدنية المادية، الأرض والثقافة، وغيرها. على أن حضور هذه الثيمات يتفاوت من مجموعة إلى أخرى. والشاعر يتحرك بين المذاهب الأدبية المختلفة، بدءاً من الغنائية البسيطة، مروراً بالرومنسية والرمزية، وانتهاءً بالسوريالية. وهو في شعره يقرن بين الشعر والغناء، فتحضر مفردة "الغناء" ومشتقاتها في عناوين أربع من مجموعاته الشعرية الاثنتي عشرة، وينشد قصائده إيماناً منه بحاجة الشعر إلى ناقل حي، ويقوم بتلحين قصائد مجموعته "أغانٍ شعبية" بنفسه.

في البعد الثالث والأخير، يتناول الغريبي مسرح لوركا، ويبدأ الخط البياني الذي يرسمه لإبداعه المسرحي بمسرحية "سحر الفراشة اللعين" التي كتبها في العام 1920، وعُرِضت في مدريد، ومُنيت بالفشل فلم يدم عرضها سوى ليلة واحدة فقط. وينتهي بمسرحية "بيت برناردا ألبا" التي كتبها عام 1935، وعُرِضت في المكسيك عام 1945، بعد تسعة أعوام من رحيله.

ويبلغ الخط البياني المسرحي الذروة في العام 1935، مع مسرحية "عرس الدم" التي تعدّت عروضها مائة وخمسين عرضاً في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، مما حقّق له مورداً اقتصادياًّ وأكسبه شهرة عالمية. وتتراوح الثيمات التي يدور عليها مسرح لوركا بين القضايا السياسية والاجتماعية، من قبيل: الحرية، القيم الجمهورية، النزاعات العائلية الدامية في الريف الإسباني، الزواج الفاشل لعدم التكافؤ العمري، فشل الرجل في الحب وحرمانه من الإنجاب، وغيرها. وفي هذا المسرح، قد يستلهم التاريخ، ويعكس البيئة الشعبية. وفي الحالتين، هو مسرح تراجيدي إلى حدٍّ كبير.

وغير بعيد عن هذا السياق، لا بدّ من الإشارة أن بين شعر لوركا ومسرحه علاقة جدلية، يتفاعلان فيها ويتكاملان؛ فنرى في شعره ملامح درامية، ونرى في مسرحه شعراً غنائياًّ. والشعر والمسرح كلاهما يتصاديان مع حياة لوركا، ويعبّران عنها خير تعبير.

يذيّل الغريبي كتابه بأصداء شعرية رجّعها مقتله لدى أصدقائه ومحبّيه من الشعراء الإسبان والعرب، وبتأملات لدارسي رحلته الإبداعية تتناول العوامل المؤثرة في شعره ومحاضراته وآرائه النقدية.