طوني فرنسيس
الرواية في طهران تستنسخ في بيروت، هناك مواجهة أبدية مع المؤامرات الأميركية وانتصارات متتالية، وفي لبنان أيام مجيدة في مواجهة الشياطين صغاراً وكباراً.
في بيروت يتم النقل دون اجتهاد لما يصوغه حكم الملالي من خطاب حول كل ما يجري في العالم، في إيران نفسها ثم في العراق وسوريا واليمن مروراً بلبنان وصولاً إلى الشيخ الزكزاكي في أصقاع نيجيريا، ولا ينفرد ممثلو الخط الإيراني وحدهم بنقل هذا الخطاب، إذ يتولى الاستفاضة في شرحه شخصيات تفرد لها الوكالات الإيرانية صفحاتها وأثيرها لتعود وتعممه كشهادات من العالم على صوابية مواقف الإدارة ومرشدها.
كان هجوم الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني حسن نصر الله في خطابه الأخير على المحتجين في إيران ولبنان، مدار تندر فوري في وسائل التواصل الاجتماعي، لم يحصل هذا الهجوم فور اندلاع احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بل كانت الاحتجاجات موضع تقدير وتأييد من جانب نصرالله، لكن عندما اجتاحت التظاهرات إيران وتواصلت منذ أكثر من شهر ونصف الشهر بات لزاماً تغيير الخطاب لينسجم مع الرؤية الإيرانية، ففي طهران مواجهة مع الأميركيين وكذلك في لبنان، وفي المكانين سيكون النصر حليف" الأنظمة المقهورة".
كانت انتفاضة أكتوبر اللبنانية رداً على هيمنة تحالف الميليشيا والفساد في نهب البلاد وهدر سيادتها وإفراغ مؤسساتها، وبعدها بثلاثة أعوام جاءت انتفاضة المرأة والشباب الإيراني رداً على عوامل مماثلة يضاف إليها القمع المزمن للحريات.
لقد شبع الشعب الإيراني كلاماً عن الانتصارات، محسن رضائي أول قائد للحرس الثوري ومبعوث الخميني لإنشاء وتدريب "حزب الله" في لبنان (1982)، طمأن مريديه أنه "إذا أخطأت إسرائيل فسنزيلها عن وجه الأرض".
رضائي الذي شغل منصب أمين مصلحة التشخيص لحماية النظام، ويعمل الآن نائباً لرئيس الجمهورية للشؤون الاقتصادية، أي إنه مسؤول عن الحياة اليومية للإيرانيين، قفز فوق المهمة المطلوبة منه ليطرح لدى ترشحه أخيراً إلى منصب الرئيس، ما سماه مشروع "الحزام الذهبي الإيراني بهدف السيطرة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط"، وأضاف، "أعتقد أن إيران يجب أن تصبح الدولة الأولى في المنطقة، وسيمتد الحزام الذهبي من أفغانستان إلى إيران مروراً بالعراق وسوريا حتى مياه البحر المتوسط في لبنان، والقوة الإقليمية التي تسيطر على هذا الحزام سيكون بإمكانها الإشراف وإدارة شؤون المنطقة بأكملها".
طموحات رضائي، التي يتشاركها مع نظرائه في القيادة الإيرانية، ويعمل من أجلها نصر الله في لبنان وشخصيات مماثلة في الإقليم، بدا أنها بعيدة سنوات ضوئية من واقع الإيرانيين واهتماماتهم الفعلية التي تتناقض مع النظام وتؤدي إلى انفجارات متتالية في وجهه.
في ظل النظام الذي يواليه نصر الله في لبنان والحوثي في اليمن وأركان الحشد العراقي هاجر أربعة ملايين إيراني بحسب إحصاءات "أمانة المجلس الأعلى لشؤون الإيرانيين في الخارج" (2019)، وفي إحصاء أحدث لـ"مرصد الهجرة الإيراني "(2021) أرقام فاضحة.
لقد أظهر هذا الإحصاء أن 66 في المئة من الطلاب الإيرانيين يرغبون في الهجرة، وأن 71 في المئة من الأطباء والممرضات والأساتذة والباحثين يفكرون في الأمر نفسه.
ليست العقوبات السبب الوحيد الذي يدفع الشباب الإيراني إلى الرغبة في مغادرة بلادهم، ففي الإحصاء نفسه أن سلة الدوافع تشتمل على التضخم، والوضع الاقتصادي واليأس من المستقبل وانعدام الحريات الفردية والاجتماعية وأسلوب الحكم وغياب نظام الجدارة والكفاءة.
محسن رضائي ممثل النظام الأبرز المتعدد الوظائف فيه، هو الآن هدف الانتقادات حتى من داخل المجموعات الأصولية، فصحيفة "وطن أمروز" الناطقة بلسان تلك المجموعات دعت في خضم المواجهات الدائرة الآن إلى إقالته، قائلةً إن تصريحاته تدل أن صاحبها من كوكب آخر، فعن أي اقتصاد وتطور يتحدث، هل لديكم علم أن خط الفقر وصل إلى 18 مليون تومان شهرياً؟ وهل تعلمون بأن الدولار يساوي 36 ألف تومان"؟
تشابه غريب بين لبنان وإيران في الهموم المعيشية، في الأخيرة يقارب خط الفقر نظيره في لبنان والدولار يدفع بالعملة الوطنية إلى الحضيض (36 ألفاً للدولار بالعملة الإيرانية و40 ألفاً بالليرة اللبنانية)، ومع ذلك يستسهل رجال النظام اتهام المواطنين المحتجين بتنفيذ مؤامرة أميركية- إسرائيلية- عربية، ويتبنى رجالاتهم في مناطق "الحزام" نظريتهم حرفياً.
لم يخرج نصرالله عن السياق، فمن يعتبر احتجاجات أبناء بلاده طاعوناً أميركياً لن يجد صعوبة في إدانة الانتفاضة الإيرانية، جزم نصرالله بثقة أن "إيران انتصرت من جديد على الفتنة والمؤامرة الأميركية الإسرائيلية الغربية. انتصرت انتصاراً كبيراً وحاسماً وهذا سيزيد قوتها قوة"، وكما في حالة رضائي يبدو هذا الكلام "قادماً من كوكب آخر"، فالمنتفضون الإيرانيون هم من دفع أكثر من 300 ضحية وآلاف المعتقلين في ثورة لا تزال قائمة وتهز أركان النظام، فيما يأتي ممثلون للملالي من الخارج ليصنفوا الشعب الإيراني ويسهمون في محاولة قمعه.
لكن لا غرابة في الأمر، فنصرالله يقول الكلام نفسه عن انتفاضة اللبنانيين، منذ أن بدأت هذه الانتفاضة ترفض الهيمنة الإيرانية وتطرح استعادة الدولة كسلطة شرعية وحيدة.
في خطابه الأخير، وفي توصيف إيراني متطابق، اعتبر الأمين العام لحزب الله أن "الأميركيين جاءوا بالفوضى إلى لبنان في انتفاضة تشرين، هذا الحراك الذي كان لنا منذ اليوم الأول شجاعة اتهامه في خلفيته وإدارته"، أن مطالب فوضى 17 أكتوبر تقويض للدولة، ولعنة وطاعون ووباء الأميركيين"!
يمعن نصرالله في سياسة الإنكار كما يفعل مرشده في طهران، لكن منتقديه سارعوا إلى تذكيره بما قاله بعد أسبوع من انطلاق احتجاجات لبنان منذ ثلاثة أعوام، ودعمه لها في كلمة معلناً "بعد يومين من بدء الحراك الشعبي قلت، إن هذا حراك شعبي نحترمه، إنه عفوي صادق، عابر للطوائف وللمناطق، يعبر عن آلام وأوجاع وهموم الناس وليس خاضعاً لأي حزب أو سفارة"!
ما الذي جرى بين 25 أكتوبر 2019 و11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 غير الخشية من تقلص نفوذ النظام الإيراني وانكفاء أذرعته؟ لا شيء آخر يفسر تصعيد الملالي في بلادهم واختلاف تقييم نصرالله للانتفاضة في بلاده من التأييد إلى الإدارة والتخوين والقمع، في وصفة جاهزة للتعميم حيث يتعرض المحور الإيراني للاهتزاز.