تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إرث "أوغاريت" في مهب الحرب

الاوركسترا السورية
AvaToday caption
مرت الموسيقى السورية بحقب زمنية وعصور مختلفة، وتطورت على أيدي أشخاص متعددين، فإبان مرحلة نشوء الكنيسة السريانية في أورفة
posted onOctober 29, 2022
noتعليق

عندما نتحدث عن الموسيقى السورية، لا نتحدث عن بلد أو تراث عادي، بل عن أقدم البلدان التي أنتجت أول أبجدية في التاريخ البشري، في مدينة أوغاريت عاصمة الكنعانيين التي تأسست في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد.

تفتخر هذه المدينة بأنها حفظت من القرن الرابع عشر قبل الميلاد ما يعتبره كثير من الباحثين أول نوتة موسيقية مدونة في التاريخ، وقد حاول علماء الموسيقى استخراج اللحن من اللوح الطيني المدون عليه (الرقيم H-6)، لكن هذه الألحان لم تأت متشابهة تماماً بسبب اختلاف قواعد القراءة التي اعتمدها هذا العالم أو ذاك.

يحمل الرقيم نصاً باللغة الحورية منوطاً على سلم موسيقي من سبع علامات، يروي حزن امرأة غير قادرة على الإنجاب فتتوجه بهذا النشيد متضرعة إلى إلهة القمر نيكال. ولا شك أن وضع السلم الموسيقي والتنويط يعني توفر أدوات متطورة للعزف، وهذا ما أكدته التنقيبات والبحوث الأوغاريتية.

واستطاع الموسيقي السوري إياد الريماوي تقديم تصور لهذه الترنيمة، حيث قدمت في إكسبو دبي 2020، وكان زائر المعرض والجناح السوري تحديداً يستمع إلى القصة والموسيقى.

مرت الموسيقى السورية بحقب زمنية وعصور مختلفة، وتطورت على أيدي أشخاص متعددين، فإبان مرحلة نشوء الكنيسة السريانية في أورفة، لجأ الشاعر أفرام السرياني (307-373) إلى وضع التراتيل في ألحان يسهل حفظها، كخطوة في مجابهة ما كان يبدو له هرطقة، وقد استفاد في مشروعه هذا من المقامات الموسيقية المنتشرة في المنطقة، التي تعود أصولها إلى بلاد ما بين النهرين.

بدأت الموسيقى والغناء السوري والعربي التقليديين باتخاذ الشكل الذي نعرفه اليوم في العصر الأموي (661-750)، حيث شيدت القصور وانتقل الغناء إلى داخلها، وأصبحت مدينة حلب في عصر الحمدانيين من أهم مراكز الثقافة العربية، حيث اجتمع أبو الطيب المتنبي والموسيقي أبو نصر الفارابي الذي لديه عديد من الكتب المتخصصة بالموسيقى وإليه ينسب اختراع آلة القانون.

تتالت بعدها سيطرة أقوام عدة على سوريا إلى أن وصلت إلى العثمانيين، وفي هذا السياق يقول البروفيسور حسان عباس "إن العثمانيين طبعوا المنطقة بثقافتهم، لذلك لا نستطيع أن ننكر أن كثيراً من الأشكال الموسيقية التركية استقر في سوريا وصار جزءاً راسخاً من موسيقاها بخاصة الموسيقى الدينية والدنيوية".

ومع بداية القرن العشرين، بدأ التأثير الأوروبي يتزايد في مدن الشرق، وازداد عدد الحانات والملاهي التي كانت تقدم حفلات غنائية واستعراضية، ويقول فخري البارودي في مذكراته "إن أشهر المغنيات كن يهوديات".

"تتطور الموسيقى التقليدية بفعل أن ناقليها وممارسيها يقومون بإعادة خلقها باستمرار، ولكن عندما يقع هؤلاء ضحية فظائع الحرب يتوقف تناقل هذا التراث وتتلاشى بفعل ذلك المعارف والمهارات المتعلقة به، إذ إن انتباه هؤلاء الأفراد يصبح مركزاً على البقاء على قيد الحياة فحسب"، هذا ما قاله إرنستو ريناتو أتون راميريز مساعد المديرة العامة لمنظمة "اليونسكو" للشؤون الثقافية، في تقديمه لكتاب "الموسيقى التقليدية في سوريا" للدكتور الباحث الموسيقي الراحل حسان عباس.

سعى هذا الكتاب الذي صيغ في إطار مشروع "الصون العاجل للتراث الثقافي السوري" الممول من الاتحاد الأوروبي عام 2018 إلى رفع الوعي حول تنوع الموسيقى التقليدية السورية.

وتحدث عباس في الكتاب عن أثر الحرب في الموسيقى وضياعها "إن التنوع في الموسيقى التقليدية لم يلق لعقود طويلة العناية اللازمة، فلم يتم صونه أو جمعه أو حفظه حتى ضاع كثير منه، ثم حلت الكارثة التي عصفت بالبلاد فدمرت عمرانها، وشردت شعبها وخربت معالم مهمة من ثقافتها، ولم تنج الموسيقى التقليدية من ويلات الصراع، فأغلقت مطارح ممارستها، إن لم تدمر، وتشتت صانعوها وحافظوها وخبراؤها في أصقاع الأرض، إن لم يخطفوا أو يقتلوا"، وهذا ما حدث لموسيقيي سوريا وفنانيها الذين تبعثروا في العالم بحثاً عن طريق وأمل جديد للحياة، ما ترك إرث سوريا الموسيقي مشرعاً على احتمالات لا متناهية.

إن أبرز ما أنتجته هذه الحرب ومخلفاتها إفراز ذائقة غير واعية للفنون عامة، وعدم معرفة أثر وتأثير تداولها بشكل منتظم في الذوق العام، بالتالي في مسيرة ومستقبل الموسيقى في هذه البلاد.

فمثلاً، إذا قورنت الأغاني المنتشرة اليوم في أرياف سوريا في الجنوب والجبال والساحل والشمال مع الألحان الدينية السريانية، سيجد الباحث تشابهاً مذهلاً في الأجناس والإيقاعات والألحان، مما يثبت أن معظم الأغاني الشعبية السورية هي آرامية، ما عدا في المناطق الشرقية، حيث تصبح الأغاني الشعبية قريبة من تراث شبه الجزيرة العربية.

وهذا يدل على الانتشار الواسع الذي حققته الأغاني الشعبية التي انطلقت منذ سنوات عدة من سوريا ووصلت إلى العالم، إن كان عبر معرفة مؤديها بأصلها أو عدمه، وهذا النجاح والانتشار الواسع فتح باباً لاستغلالها مادياً ومعنويا، حيث أدى هذا النوع كل من اعتبر أنه لديه موهبة ما لتأديتها دون فهمها أو معرفتها.

إلى أن وصل الأمر منذ مدة ببعض المؤدين لاستخدام كلمات نابية كإضافات تسهم لهم بالانتشار السريع والساحق، حيث بملاحظة بسيطة على حال الفنانين في العالم العربي سيجد المراقب أنهم يستخدمون طرقاً ملتوية ليسهموا في سرعة انتشارهم كإطلاق إشاعة ضدهم، أو خلق عدو وهمي أو التلفظ بكلام مثير للجدل، وهو ما أسهمت به وسائل التواصل الاجتماعي التي استطاعت خلق مجتمع كامل عبر منصاتها.

وهذا ما دفع نقابة الفنانين في سوريا إلى وقف بعض المؤدين عن الغناء أو الظهور في حفلات خاصة، إلى حين قدومهم إلى النقابة وتوقيع تعهد بعدم تلفظهم بكلام مخل بالآداب العامة في أي حفلة من حفلاتهم، وهذا الجدل قسم الشارع السوري إلى مؤيد ومعارض.

وعلى رغم الإقبال على هذا النوع من الموسيقى، إلا أن الذائقة العامة ليست المسؤولة الوحيدة عما يحدث، فالذوق لا ينشأ في فراغ، وإنما يصقل عبر مراحل مستمرة تتضافر فيها جهود الأسرة والمجتمع والمدرسة ووسائل الإعلام والفنانين وأجهزة الثقافة والفكر في البلاد، وهو غير موجود في سوريا، ما عدا بعض المحاولات الخجولة هنا وهناك.

وهذا ما يؤكده الباحث الموسيقي عباس "تحتاج الموسيقى التقليدية دوماً إلى مؤسسات للصون والحفظ والتوثيق". لكنه يعول على المجتمع وذاكرته لحفظ تراثها وحقيقتها.

ويضيف " تبقى مخازن الموسيقى في صدور أهلها، حيث تبقى جذوتها متقدة مهما ارتفع الركام ومهما زاد حجم الرماد، ولا مناص من العمل الجاد المستمر لنفخ الروح في هذه الجذوة لتنتعش وتنبعث من جديد لدى أجيال الأطفال، ولدى الأجيال المقبلة"، وهذا ما يسعى إليه عديد من الموسيقيين السوريين الذين يعملون تحت طبقة من الثرثرة والجعجعة لما لديهم من إيمان بحضارة هذه البلاد وإرثها الثقافي.