تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

طهران تتوغل في عمق حوزة النجف

حوزة النجف
AvaToday caption
تتسبب التسمية المموّهة للمدارس الدينية الممولة إيرانيًا باختلاط الأمر على كثيرين، خاصة حين تستخدم التعريف في أسمائها مثل "الحوزة العلمية (في بغداد) مركز الإمام الحجة"، بدل استخدام عبارة "حوزة الإمام الحجة"، تمامًا كما يحدث عند المحاولات المألوفة لتقليد العلامات التجارية
posted onJune 26, 2022
noتعليق

بالنسبة لدولتين جارتين تشتركان في عدة خصال، مثل العراق وإيران، يبدو التنافس مفهومًا في مجالات عدة، لكن الميزان كان غالبًا مائلاً ضد العراق، لا لضعف إمكانياته بل لعدم تكافؤ الفرص، ليس ابتداءً بالزراعة والصناعة التي يشكو أربابها في العراق من نزال غير عادل، ولا انتهاءً على ما يبدو بالزعامة الروحية على المذهب الشيعي بين النجف وطهران.

يعبّر رجال دين عراقيون وأجانب من مريدي حوزة النجف لصحف محلية، عن مخاوفهم على استقلالية الحوزة، وملف وراثة المرجع السيستاني، ويقولون إن غموضًا يلف مستقبل المرجعية، نظرًا لتغوّل دور "الحوزات السياسية" في المدينة، وما قد يعنيه ذلك من انعكاسات على مستوى التأثير في اختيار خليفة المرجع السيستاني، أو حتى التغيير المسار الآيديولوجي لخريجي تلك المدارس الدينية.

طيلة 3 أعوام، رفع المتظاهرون الإيرانيون شعارات ضد الإنفاقات المالية الكبيرة لحكومة بلادهم في الخارج، مثل العراق وسوريا ولبنان.

في النجف كما بقية المدن، يمكن لمس أسباب الغضب الإيراني ومشاهدتها رأي العين، فالدعم الإيراني ماليًا أو لوجستيًا، لم يقتصر على الفصائل والأحزاب، بل تعدى إلى محاولة تثبيت موطئ قدم على ساحة حوزة النجف العريقة، التي كانت طيلة قرون، الجهة الأكثر تأثيرًا لدى شيعة العالم.

من جانبهِ حاور موقع "الترا عراق" المحلية أحد رجال الدين من خريجي مراحل متقدمة في حوزة المرجع علي السيستاني في النجف، والذي اختص بمتابعة شؤون الحوزة، ومراقبة طبيعة المتغيرات التي تطرأ في الآونة الأخيرة على مستوى اتجاهات قطاع التدريس الديني والزعامة الروحية، ودور الجانب المالي في ذلك.

يرفض المتحدث نشر اسمه وصفته، كما يقول إنّ سياق الحوزة يصرّ على البقاء بعيدًا عن الإعلام "لكنّي أقدم هذه المعلومات لأني أشعر بمسؤولية كبيرة في مساعدة الرأي العام على التفريق بين الحوزة العريقة، وبعض محاولات التطفل"، وبالفعل، لا يمكن حتى العثور على صور عالية الدقة لمنشآت حوزة النجف، كما يؤكد المتحدث ردًا على طلب صور لإرفاقها في الحوار "لا تبحثوا عن صور.."، بينما تخصص الجهات الأخرى أقسامًا كاملة للإعلام والترويج.

في حوزة النجف، ليس ثمة نظام رواتب شهرية بالطريقة المألوفة لدى الموظفين مثلاً، وبدلاً عن ذلك هناك "توزيع مستحقات شرعية".

تخصص مكاتب المرجعيات الدينية جزءًا من أموال الخمس والزكاة والتبرعات التي تتلقاها من المريدين، لدفعها إلى الطلبة.

يقوم الطلبة شهريًا بزيارة مكاتب مراجع الدين لقبض تلك الأموال، وفي نهاية الجولة يحصل الطالب على ما يسد به رمقه خلال شهر.

مجموع ما يحصل عليه طالب الحوزة – غير المنتظم مع الجهات الإيرانية - قد لا يتجاوز 300 ألف دينار (205 دولارات أميركية)، وهو المتوسط المعهود حتى قبل عامين، وربما شهد ارتفاعًا طفيفًا.

يتم جمع المبلغ المذكور، عبر ما يقدمه مكتب المرجع السيستاني، وهو 100 ألف دينار تقريبًا لكل طالب، وكذلك مكاتب مرجعيات صادق الشيرازي، وناصر مكارم الشيرازي، والوحيد الخراساني، التي يقدم كل منها ما لا يتجاوز 10 دولارات تقريبًا، فضلاً عن لجنة مشتركة يديرها مكتب المرجع محمد سعيد الحكيم، وتقدم مجتمعةً ما لا يتجاوز 100 دولار.

وتخصص تلك المبالغ للطلبة المتزوجين، والذين لا يملكون موارد من عمل خارج الدراسة الحوزوية، ولا يكون توزيع جميع المكاتب للمستحقات في يوم واحد، بل يحتفظ كل مكتب بيوم للتوزيع، أي أن الطالب لن يحصل على الـ 205 دولارات في يوم واحد أو دفعة واحدة.

على الجانب الآخر، حيث ما يسميه رجال حوزة النجف بـ "الحوزات السياسية" في إشارة إلى المؤسسات التي يمولها أنصار ولاية الفقيه الإيرانية، تبدو الأمور أكثر سخاءً.

يحصل معظم الطلبة المنتظمين في المدارس الدينية ذات التوجه "الولائي" على أكثر من 300 دولار أميركي دفعة واحدة عند بداية كل شهر، ويخصص مكتب مرشد الثورة الإيرانية أعلى مبلغ من المستحقات للطلبة نسبةً إلى بقية المكاتب، وتقوم تلك الحوزات بتوظيف طلبتها في أعمال أخرى - بعضها وهمي على طريقة الأحزاب - مثل مكاتب إعلامية ولجان مختصة وغيرها، كما أن أولئك الطلبة يتلقون أيضًا "المستحقات الشرعية" من مكاتب بقية المراجع كأقرانهم، فتصل مداخيل الطلبة المرتبطين بالحوزات التابعة لإيران إلى أضعاف ما يتقاضاه طالب حوزة النجف.

ثمة على سبيل المثال مدارسُ على صلة بجماعة "عصائب أهل الحق" تمنح طلبتها أكثر من 600 ألف دينار مقابل "أعمال خارجية"، وامتيازات السطوة والنفوذ تفوق الجانب المالي، والأمثلة المشابهة كثيرة ومعروفة لدى أوساط النجف.

لا تسمح حوزة النجف لطلبتها بإظهار الترف، ويخضع أي طالب أو أستاذ للتدقيق إذا ما لوحظ تضخم ثروته، لقد توفي زعماء للطائفة من حوزة النجف دون أن يمتلكوا منازل مثل الأنصاري والأصفهاني، أما سلوك بعض المعممين الحاليين، كركوب السيارات الفارهة واستعراض المنازل الفخمة فعند تدقيقه سيظهر في الغالب أنهم ينتمون إلى خطوط أخرى غير خط حوزة النجف.

على المستوى المالي، تتشدد حوزة النجف في الاستقلالية عن الحكومات، ورفض استلام أي تمويل من خارج نطاق مساهمات المؤمنين والمريدين للحوزة، لكن المدارس المرتبطة بإيران، تتلقى تمويلاً حكوميًا أو شبه حكومي، وهذا يجعلها أكثر قدرة على استقطاب المؤيدين عبر توفير امتيازات شخصية.

ليس لحوزة النجف نظام إداري أو هويات خاصة أو حتى مبنى ثابت للتدريس كما قد يعتقد البعض، لم يحدث هذا في تاريخ الحوزة، ليس ثمة تسجيل للحضور والغياب أو هويات أو باجات خاصة باستثناء كارت بتصميم بسيط يستلم بموجبه الطالب المستحقات المالية من مكاتب المراجع، ويحوي اسم الطالب ومرحلته الدراسية والصورة الشخصية، ليس للحوزة مدير ونائب مدير، وعوضًا عن هذا، فإن أركان الحوزة بسيطة، هناك مرجعية عليا تتزعم الطائفة، يمثلها حاليًا المرجع علي السيستاني، وقبله أبو القاسم الخوئي، ومحسن الحكيم، وأبو الحسن الأصفهاني وحسين النائيني وهكذا..، ولدى هؤلاء المراجع أساتذة، يقدمون الدروس للطلبة، وبهذا تنتهي الحلقة بهذه الأركان الثلاثة.

المدارس الدينية الإيرانية في النجف تفرض أنظمة مشابهة لما هي عليه في إيران، من الحضور والغياب والإداريات والمباني، وهي أقرب إلى التنظيم منها إلى شكل حوزة النجف التاريخية.

جميع أساتذة الحوزة سواء في النجف، وإلى حد كبير "قم" الإيرانية، يشتركون في الرؤى العقائدية والفقهية وأيضًا السياسية، بأن الدولة لا تحكم باسم الإله في زمن غيبة الإمام الثاني عشر، وأن الوظيفة الرئيسية للطلبة هي التفقه والتسامي في التحصيل العلمي الشرعي، والتبليغ ومحاولة إصلاح المجتمع دينيًا، أما المقربون من الاتجاه الولائي الإيراني، فإن أهدافهم وكذلك دروسهم، لا تقتصر على الجوانب الدينية الصرفة، بل يمررون لطلبتهم أفكارًا تتعلق بالولاء لمرشد الثورة في إيران وغيرها من المواقف السياسية.

حوزة النجف

وتدريجيًا، بدؤوا يطلقون على مدارسهم "الحوزة المقاومة" لمنح أنفسهم درجة علوية فوق منهج الحوزة العلمية النجفية، وهي محاولات مألوفة بالنسبة لنا، فقد سبق أن شاعت في فترة التسعينيات من القرن الماضي وما بعدها، عبارات مثل "الحوزة الناطقة" التي قادها المرجع محمد محمد صادق الصدر، والتي كانت تستبطن بأنّ حوزة النجف "صامتة"، لكن حوزة النجف بقيت محافظةً على مكانتها "كجهة لتدريس العلوم الدينية وليس غير ذلك" سواء في وجه المزايدات، أو في وجه التفوق المالي لبعض الجهات.

فكرة حوزة ومرجعية النجف هي الزعامة الروحية وتدريس الدين، لا شيء غير ذلك، الدين فقهًا وأصولاً وعقائد وغيرها، أما المؤسسات المرتبطة بإيران، فسيتمكن الطالب بيسر من معرفة ارتباطاتها، إن لم يكن من خلال ثرائها وإمكانياتها المالية واللوجستية الكبيرة، فعبر خطابها الذي يثقف لولاية الفقيه والسياسة ومحور المقاومة.

أساتذة الدرس ومواقع التدريس أيضًا تساعد على التمييز بين الطرفين، فدروس حوزة النجف تُلقى في مدارس ومساجد معروفة منها "مدرسة الآخوند والمدرسة المهدية ومدرسة البادكوبي، وأكثر من 30 موقعًا في النجف تقيم فيه الحوزة العلمية دروسها، أما في كربلاء فيُقام الدرس في دار العلم في مرقد الإمام العباس، ومدرسة الإمام الحسين في مرقد الإمام الحسين، ومدارس أخرى تتبع المدرستين المرتبطتين بشكل مباشر بحوزة النجف.

إلى جانب ذلك، فإن حوزة النجف متشددة للغاية في قبول الطلبة في المراحل المتقدمة، وتشترط أن يحضر الطلبة لدى مدرسين محددين.

تتسلسل مراحل الدراسة من المقدمات ثم السطوح ثم السطح العالي وصولاً إلى البحث الخارج وهي المرحلة التي يدرس فيها الطالب لدى مرجع مجتهد حصرًا، ويكون الحضور بعد تزكية سيرته وسلوكه في المجتمع.

معظم  المراجع الحاليين في النجف يلقون دروس "البحث الخارج"، مثل الشيخ بشير النجفي، الشيخ محمد إسحاق الفياض، إلى جانب الشيخ هادي آل راضي، والشيخ محمد باقر الأيرواني، الذي يُعتبر درسه الأول في النجف تقريبًا.

هناك أيضًا السيد علي السبزواري ابن المرجع عبد الأعلى السبزواري، والشيخ حسن الجواهري، حفيد صاحب الجواهر، وكذلك صهر المرجع الحكيم، حسين الحكيم، وابنَي المرجع السيستاني محمد رضا ومحمد باقر، كما أنّ درس المرجع السيستاني الخاص مازال مستمرًا لكنه مقتصر على دائرة ضيقة من الفضلاء وهم أعلى من مستوى الطلبة، ويكون حضورهم للمباحثة.

وإلى جانب تلك الأسماء، ثمة مجموعة كبيرة من الأساتذة، مثل: السيد مرتضى الشيرازي، والشيخ محمد أمين المامقاني والشيخ عبد الرضا الرويمي وغيرهم.

جميع تلك الأسماء تمثل الحوزة العلمية العريقة في النجف، التي مازالت تقاوم التطفلات السياسية الداخلية والخارجية.

تتسبب التسمية المموّهة للمدارس الدينية الممولة إيرانيًا باختلاط الأمر على كثيرين، خاصة حين تستخدم التعريف في أسمائها مثل "الحوزة العلمية (في بغداد) مركز الإمام الحجة"، بدل استخدام عبارة "حوزة الإمام الحجة"، تمامًا كما يحدث عند المحاولات المألوفة لتقليد العلامات التجارية، بحذف أو إضافة حرف، مثل تقليد "Starbucks" بـ  "starbuck". وإيران دولة رائدة في مجال تقليد العلامات التجارية.

قبل أسبوعين، ألقت السلطات القبض على رجل دين نفذ عملية سطو على متجر للهواتف النقالة، وحمل المعمم بطاقات تشير إلى انتمائه إلى "الحوزة العلمية.." وأظهرت صور لاحقة، قربه من أجواء الفصائل.

لم يصدر تعليق من ما يسمى بـ "الحوزة العلمية في بغداد" بشأن صحة انتساب المتهم، لكن صفحة تحمل اسم "مركز الحجة القائم عج للدراسات الاسلامية والاستراتيجية" شاركت منشورًا بعد أيام على الحادثة، احتوى عبارة منسوبة لقائد الثورة الإيرانية روح الله الخميني، يتبرأ فيه من المعممين السرّاق.

يقول رجال دين من حوزة النجف، إن اعتماد المدارس المرتبطة بإيران، تسميات متداخلة مع اسم "حوزة النجف"، وعدم دراية العامّة بهيكلية الحوزة الدينية، يتسبب بإشكالات كبيرة على مستوى سمعة مرجعية السيستاني، كما أن افتقار الناس للمعلومات الكافية حول طبيعة الاستقطابات التي تجري في النجف، يصعّب مهمة الحوزة في النأي بنفسها عن المشاريع السياسية الإيرانية التي يعبر عنها معممون يصعب على العامة تمييز مظهرهم الخارجي عن رجال حوزة النجف، كما يشير المتحدث إلى أن شخصيات وأدبيات الاتجاه الولائي تتسلل تدريجيًا إلى الجهات المرتبطة بمرجعية النجف، عبر بعض الأنشطة الموازية، وهي تحت الأنظار والملاحظة، لكن الجانب التدريسي مازال محصنًا.