خالد اليماني
لطالما كانت تشغلني الشيفرة الإيرانية وتمدد الإسلام السياسي الشيعي في الجغرافيا العربية منذ سقوط الملكية في إيران، وقيام دولة الملالي في نهاية سبعينيات القرن الماضي، لكن الأمر بات أكثر إلحاحاً منذ تولي مهام عملي في الأمم المتحدة، ممثلاً للجمهورية اليمنية، فالإشكالية الإيرانية في اليمن كانت، وما زالت، الموضوع الرئيس لمهمتي، فبالنسبة لي لم تعد تتصل ببلد بعيد فحسب، بل باتت مشتبكة بوطني بفعل استنساخها لميليشيات الحوثي.
لقد أدى هذا الاشتباك لنتائج كارثية غير مسبوقة في تاريخ وطني، وهو وضع لا نستطيع معه الاستمرار، بل ويتوجب علينا الاجتهاد في معالجته. وبمناسبة دخول الحرب عامها الثامن، أُعيد هنا التذكير بجذور الخلل الذي قذف باليمن وأهله إلى قاع هاوية سحيقة، والتذكير بأن المبادرة ما زالت بيدنا لإحداث فرق في هذه الحرب.
وما زال السؤال يلح اليوم: كيف يمكننا في اليمن تفكيك هذه الشيفرة التي تمكنت من مجتمعنا لتُحوله إلى بؤرة صراع تتبدى مخرجاته بدمار الحرث والنسل، وفناء الآلاف من خيرة أبناء اليمن في جبهات الموت، وسيادة ثقافة الجهل والخزعبلات القروسطية. كيف يمكننا تفكيك شيفرة أدوات إيران في بلادنا، والتي تمثلت في بث الشقاق، ونبش الصراعات الطائفية التاريخية، وإثارة الفوضى، وإيقاظ الفتن.
في الواقع، فإن الجارة البعيدة، إيران، منذ وصول الملالي إلى السلطة في عام 1979، بزعامة الخميني، لم تتوقف عن فرض رؤيتها الإمبراطورية على العالمين العربي والإسلامي، ووضعت نصب أعينها التمدد في المنطقة، عبر إزاحة وجود أي قوى خارجية، فكان التركيز على شيطنة أميركا، للتعامل مع واقع الوجود العسكري الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي، وهو الوجود الذي شكل عقبة كأداء أمام التطلعات التوسعية لنظام الملالي، وأسهم لاحقاً في تعزيز النظم الوطنية في الجزيرة العربية، حتى باتت اليوم صروحاً منيعة للسيادة العربية.
وفي السنوات الأولى لذلك الحدث الجلل الذي شهدته طهران، والذي اتفق كثير من المحللين على أنه حدث سيكون له ما بعده، سعت إيران بممارسة إرهاب الدولة، لإطلاق صورة قوة الملالي الخارجية، فكانت أولى تلك التجارب احتلال السفارة الأميركية في طهران بعد بضعة أشهر من قيام ثورة الخميني، وتلتها بأعمال إرهابية من خلال "حزب الله" الناشئ، وتفجيره ثكنة القوات الأميركية في بيروت في 1983.
واختطت إيران طريقها إلى قلوب العرب، بخاصة بعد أن فشلت النظم العربية الجمهورية لما بعد المرحلة الاستعمارية من تحقيق الاستقرار والازدهار والحياة الكريمة لهم، وانتهزت إيران هذه النقمة، وتحت مبرر مقاومة التدخل الخارجي، وحماية السيادة، انتشرت شعارات الثورة الإيرانية كالنار في الهشيم في كل البلاد العربية، بخاصة بعد قيام "حزب الله" بمواجهة إسرائيل، فتحول حسن نصر الله إلى رمز للمقاومة.
وبالفعل، نجح الخمينيون في خداع كثير من العرب والمسلمين الذين اغتروا بظاهر القول وقشور السياسة الإيرانية، دون النظر إلى لُبّها، بإحياء النعرات الطائفية والمذهبية بعد أن وُئدت. وبشكل مُوازٍ لخطاب المقاومة الذي لا يقاوم لشعبيته الواسعة، وشعاراته الفضفاضة، عملت إيران على تنظيم الجماعات الشيعية في المنطقة العربية، وتمويل أي توجهات تخريبية لتنظيماتها تحت تسميات "المستضعفين في الأرض".
وفي بحثها عن وسائل استنهاض المشروع الشيعي الاثنا عشري في طول وعرض جغرافيا المنطقة، كان اليمن في صدارة مشروع طهران لتصدير الثورة، انطلاقاً من معتقد متأصل في الفكر الديني الشيعي لما يسمى عصر الظهور، والذي يفترض خروج "اليماني" من صنعاء قبيل ظهور المهدي المنتظر ببضعة أشهر. واستغلت الوضع المزري الذي خلفه نظام صالح بعد أكثر من ثلاثة عقود في السلطة، لتنفث سمومها.
امتطاء الدولة الفاشلة
وفي الواقع، فإن أصابع إيران لم يكن لها أن تتغلغل في اليمن لولا وجود عوامل موضوعية ساعدتها على ذلك، وكل ما عملته هو تأجيج هذه العوامل. وأتذكر مرافقتي لوزير الخارجية اليمني عام 2011 في زيارة عمل إلى المنامة، حينها جددت القيادة البحرينية تحذيراتها من زيادة الخطر الإيراني في المنطقة، وكان ذلك قبيل التمرد الذي شهدته الدولة. وكان جهد مملكة البحرين القوية وإجراءاتها الحكيمة لاحتواء تفشي الوباء الإيراني بإسناد من الأشقاء في المملكة نموذجاً للحزم. إلا أن البحرين كانت دولة متماسكة الأركان قوية البنيان، مما أسهم بإجهاض المشروع الإيراني في مهده.
أما في اليمن، فكان المدخل فشل الدولة، وتصارع القوى السياسية من أجل نيل مصالح ضيقة، وتشظّي المؤسسة العسكرية والأمنية، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وانهيار الخدمات، وانتشار الفقر، فيما أسهم التمرد الحوثي - الذي امتد لعشر سنوات، منذ الحروب الستة، وصولاً إلى التحريض ونشر الفوضى واحتلال العاصمة اليمنية في أكتوبر 2014، والحراك الجنوبي وشلل الحياة في المحافظات الجنوبية والشرقية المنشغلة بالنضال المطلبي - أسهم في توسع نفوذ تنظيم القاعدة في اليمن عبر تطبيقاته الداخلية بدعم من قوى سياسية مختلفة.
وطوال عام 2012، ظل الرئيس عبد ربه منصور هادي، عقب انتخابه رئيساً توافقياً لقيادة عملية الانتقال السياسي السلمية في اليمن، وفق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، يعمل على تحذير كل القوى السياسية في الداخل اليمني من مغبّة الانخراط مع المشاريع الإيرانية عبر عملائها المحليين، كما عمل من خلال كل حواراته وجولاته الخارجية، للفت انتباه الرأي العام العالمي لأخطار السياسات التخريبية والتوسعية الإيرانية في اليمن، وأثرها المدمر على أمن واستقرار دول المنطقة، وعلى الملاحة الدولية جنوب البحر الأحمر.
ولم يكتفِ الرئيس اليمني بإطلاق التحذيرات وتبيان أخطار التحرك الإيراني القادم في المنطقة، بل أوفد رئيس جهاز الأمن القومي لمحاورة إيران في مسقط، ولم يخرج هذا الحوار بنتائج، نظراً لتعنت الجانب الإيراني ورفضه الطرح اليمني، وتأكيده أن العلاقات اليمنية - الإيرانية هي علاقات أخوية، ولا يجوز التشكيك في نياتها، في وقت تفتح فيه الأبواب على مصراعيها لأميركا في اليمن. ولم يترك رئيس الوفد التفاوضي الإيراني الجلسة إلا بعد أن أسر مبتسماً للمفاوض اليمني، بأن إيران لن تترك إخوتها في اليمن ممن سماهم "المستضعفين في الأرض"!!
كان المشروع الإيراني يتقدم بخطوات متسارعة في اليمن، وكانت الأسلحة تنهمر من كل حدب وصوب باتجاه صعدة، وبعد إثارة الرئيس اليمني قضية خلية التجسس الإيراني في اليمن توترت العلاقات، وسارعت إيران لاستمالة هادي، من خلال رسائل التطمينات، وإطلاق وعود سخية بتقديم مساعدات تنموية بملايين الدولارات لصالح دعم قطاع الكهرباء المتهالك، إلا أن الرئيس اليمني استمر على نهجه في إرسال الرسائل التحذيرية لكل الأشقاء والأصدقاء، معمدة بالدلائل، فأدركت المملكة خطورتها الوشيكة.
ولم تلقَ تحذيراته آذاناً صاغية في جميع العواصم الغربية التي زارها، وكانت تتطلع إلى الاتفاق مع نظام الملالي، حول أفضل السبل لاحتواء برنامجها النووي. ولم تكن واشنطن مع الأسف، وأعتقد أنها ما زالت، غير مقتنعة اليوم بفكرة إرهاب الدولة الإيرانية، على الرغم من أن الإرهاب الإيراني وأذرعه في المنطقة قتل الكثير من الأميركيين، وما زال يفعل ذلك اليوم في العراق، ولكن واقع الحال أن الفكر السياسي الأميركي واقع تحت تأثيرات اللوبي الإيراني النشط في مراكز صناعة القرار في واشنطن، والذي روج، ولا يزال يروج، لفكرة المعتدلين والمتشددين في منظومة الملالي الحاكمة في طهران، مستبعداً فكرة إرهاب الدولة.
وكانت الرياض هي العاصمة العربية الوحيدة التي التقطت المخاوف اليمنية ووضعتها في ميزان تقييمها الدقيق، فخلال نهاية جولاته الخارجية مع نهاية عام 2012، والتي كان لي شرف مرافقته خلالها، حطّ الرئيس ضيفاً في مدينة جدة. وفي لقاء مع خادم الحرمين الشريفين المغفور له، بإذن الله، جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، كرر جلالته على مسامع كبار المسؤولين السعوديين، ما قاله الرئيس اليمني مذكراً بأن الخطر بات محدقاً.
اجتثاث للسرطان المتفشي
ولولا رؤية المملكة الثاقبة، وإمساكها بقوة بزمام الأمن الإقليمي، الذي كاد يترنح نظراً لما شهدته دول المنطقة من حال اللا استقرار جراء ما سمي ثورات الربيع العربي، وكيف تركت المنطقة نهباً للفوضى التي اقتنصتها طهران لصالح مشروعها التوسعي، لكننا اليوم نعيش عصراً إيرانياً بامتياز، يملي فيه علينا ملالي إيران مصائرنا اليومية، ونرفع فيه شعارات "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل". وفيما كان اليمنيون في غفلة من الزمن يتفاوضون في حوار وطني على أفضل السبل "الديمقراطية" للمشاركة السياسية وتقسيم الحصص والثروة في دولة تتهالك أركانها، كان السرطان الحوثي يتمدد في جسد الدولة.
واليوم في السنة الثامنة للحرب اليمنية، يبقى السؤال قائماً، كيف يمكننا تفكيك الشيفرة الإيرانية في اليمن؟ وما هي أدواتنا لهزيمة المشروع الإيراني؟ والانتصار لمشروع استعادة الدولة. وبتقديري فإن وحدة كل القوى الرافضة للمشروع الإيراني في اليمن تشكل مدخلاً أساسياً لتفكيك الشيفرة الإيرانية في بلادنا.
اليوم، فيما تتواصل مشاورات جميع القوى السياسية والمنظمات المجتمعية في مؤتمر الرياض 2، تحت سقف مجلس التعاون لدول الخليج العربية، يحتاج هذا السؤال إلى جواب جماعي موحد وحاسم، ينطلق من توحيد الرؤى حول قيادة الشرعية اليمنية المتجددة، ومواصلة الطريق الذي بدأناه في 2015، خلف رئيس الجمهورية، وهذا ما سبق وقلته في مقالي الأسبوعي في "اندبندنت العربية"، 19 مارس (آذار) الماضي، بعنوان "سلام اليمن في الرياض الخليجي".
إن سلام اليمنيين ممكن في الرياض، إن خلصت النيات، وتوحدت الإرادات، مغلبين مصلحة اليمن وشعبه المقهور الذي يتطلع إليهم من كل محافظات اليمن، ويناشدهم جبر كسره واستعادة لُحمته بوحدتهم، والسمو فوق المصالح الفئوية والجهوية، والفردية الضيقة، وعدم التحول إلى عبء متزايد على الأشقاء في التحالف، ولا يمكن تحقيق ذلك، وهم يصوبون سهام بعضهم ضد البعض، تاركين الساحة لإيران وأدواتها في اليمن تواصل نفث سمومها السرطانية في مجتمعنا وأرضنا، وليتذكروا دائماً أن وطناً لا نحميه، لا نستحقه.