تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كورونا أزال جدران المتاحف

متحف اللوفر في باريس، أثناء الحجر الصحي
الصورة : كارزان حميد شبكة (AVA Today) الأخبارية
تنشط حركة "إنهاء الاستعمار هنا" في قضايا حماية حقوق السكان الأصليين، وتحرير السود، والقضية الفلسطينية، وعدم المساواة الاقتصادية. وتركز على قطاع المتاحف والمؤسسات الثقافية، وتستهدف الميول الاستعمارية داخل عالم الفن
posted onFebruary 16, 2021
noتعليق

العام المنصرم، صارعت جل متاحف العالم من أجل البقاء، وتوقع أبرز المتخصصين في هذا المجال أن تقفل العديد منها أبوابها إلى الأبد وأن تعلن إفلاسها. لكن تلك الصورة القاتمة لم تكن الوحيدة، فقد انتعشت بالمقابل أنشطة بديلة.

لجأت العديد من المؤسسات الفنية إلى عرض أعمالها عبر الإنترنت استجابةً لقواعد السلامة والإغلاق الحكومية، لتحول نفسها إلى ما أسماه المنظّر الفني الفرنسي أندريه مالرو "متاحف بلا جدران". لكن تجاوز جدران صالات العرض الخاصة بها لم يحلّ النوع الآخر من الحواجز المستعصية داخل المتاحف: الظلم العنصري.

في تقريره نشره موقع "ذا ريدر" الأميركي التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (Thereader.MITpress)، أشار ديفيد جوسليت إلى أنه على خلفية مقتل جورج فلويد، سلط وابل من التعليقات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي الضوء على هذه الحواجز الثقافية، ونوقشت مظاهر العنصرية الممنهجة بين الفنانين الأميركيين المحترفين والمرموقين.

أزمة مزدوجة

ذكر الكاتب أن المتاحف تواجه حاليًا أزمة مزدوجة تتمثل في القيود غير المسبوقة على أنشطتها على الأرض، بالإضافة لذلك هناك مطالب متزايدة لإنهاء التواطؤ مع تاريخ الظلم العنصري. وقد أدى ذلك إلى إثارة تساؤلات عميقة حول مستقبل قطاع المتاحف ومظاهر التنوع والشمولية المجتمعية في مثل هذه المؤسسات.

في عصر يشهد ركودا في التمويل العام للفنون، تتلقى معظم المتاحف الأميركية الدعم من قبل فئة صغيرة من المتبرعين الأثرياء للغاية. وعلى هذا النحو، ينظر إلى المسؤولية المدنية والتنوع من خلال فئة صغيرة تمثل بالكاد 1% من المجتمع، بحسب الكاتب.

أشار جوسليت إلى أن المتاحف الأوروبية الحديثة تعرض أعمالًا من مجموعة واسعة من المناطق الجغرافية والعصور التاريخية، لكنها كانت في بدايات تأسيسها مؤسسة ثورية تهدف إلى تكريس هيئة اجتماعية جمهورية حديثة.

وشكل متحف "اللوفر" النموذج الأولي "للمتاحف العالمية" في أوروبا وأميركا، حيث تأسس عام 1793 تحت مسمى "المتحف الفرنسي" لعرض مجموعات تعود إلى الطبقات الحاكمة المدنية والكنسية بالنظام الفرنسي القديم. وأُتيحت تلك المجموعات الفنية لعامة الشعب للتأكيد على أن القدرة على ممارسة الفنون ورؤية النفس فيها حق أساسي من حقوق المواطنة.

على نحو مماثل، أوائل القرن 19 في بريطانيا "العظمى" اعتبر بعض المنظرين أن المتاحف يجب أن تكون مفتوحة كالمكتبات، حيث توفران معًا الموارد التعليمية اللازمة لتطوير المجتمعات.

الفن في العولمة

وفي كتابه "التراث والديون: الفن في العولمة" بحث الكاتب في محاولات المتاحف خارج الدول الغربية منذ تسعينيات القرن الماضي محاربة المركزية الأوروبية التي تهيمن على قطاع المتاحف العالمية، وذلك من خلال تقديم أشكال فنية تجسد البعد الجمالي للمعرفة التي تحطم المنظور الإمبريالي والاستعماري الجديد الكامن وراء ادعاءات تلك المتاحف تمثلها لقيم طوباوية ومثالية.

وإذا كانت الحداثة الأوروبية مبنية على فكرة الإتيان بالجديد -أي على تجاوز الماضي، وغالبًا عن طريق وصم المجتمعات "التقليدية"- فإن الفن العالمي المعاصر يعيد إحياء الماضي كمورد للحاضر، بحسب الكتاب.

وفي هذا البحث عما تعنيه العولمة للفن المعاصر، يجادل جوسليت بأن الاستخدام الإبداعي للتقاليد العريقة من قبل فنانين من جميع أنحاء العالم يعمل وسيلة لمكافحة إرث الفن الحديث المتمثل في المركزية الأوروبية، إذ ادعت الحداثة أنها تعيش في المستقبل وأنزلت بقية العالم مرتبة الماضي.

لكن الفن المعاصر يحطم هذه الأسطورة من خلال إعادة تنشيط واستدعاء أشكال مختلفة من التراث، مثل الرسم بالحبر الأدبي في الصين، وفنون الرسم لدى السكان الأصليين في أستراليا، في محاولة لبناء مستقبل جديد ومختلف.

كان هذا التركيز على "إنهاء الاستعمار" ضروريًا للجهود الأميركية الحديثة التي تهدف لدمقرطة المتاحف. ومن الأمثلة على ذلك حركة "إنهاء الاستعمار" التي نجحت في إجبار وارين كاندرز نائب رئيس مجلس متحف "ويتني" على التنحي من منصبه بسبب علاقته بشركة منتجات الغاز المسيل للدموع الذي قد يكون استخدم ضد المهاجرين على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك.

ويعتقد الكاتب أنه من الممكن تفكيك العنصرية الهيكلية داخل المتاحف عن طريق معالجة ثلاثة أبعاد: برامج المتاحف، الرعاة، إمكانية وصول شتى طبقات المجتمع للمتاحف. فعلى سبيل المثال، سعت المعارض غير الغربية إلى مراجعة برامج المتاحف أو وضع حد للطابع الاستعماري فيها عن طريق اتباع بعض الإستراتيجيات التنظيمية، مثل التعاون مع خبراء المجتمع (كبار السن المطلعين على إرث الأميركيين الأصليين).

عندما يتعلق الأمر بالرعاة، فقد كشفت حركة "إنهاء الاستعمار هنا" في تحركاتها ضد متحف "ويتني" والمتاحف الأخرى، عن مدى تناقض قيم الممولين وتحريفهم للقيم التي تفتخر بها المؤسسة. ومع ذلك، لم يتم إيلاء اهتمام كاف لإمكانية الوصول للفنون، على الرغم من انتعاش فكرة "المتحف بلا جدران" في القرن 21.

واستقالت الروائية والأديبة المصرية أهداف سويف، منتصف عام 2017، من عضوية مجلس أمناء المتحف البريطاني العريق، وانتقدت ما أسمته تواطؤ المتحف في "غسل وجه" شركة "بريتيش بتروليوم" التي ترعى أنشطة للمتحف، وصمت المتحف عن ملف إعادة القطع الأثرية المنهوبة من الحقبة الاستعمارية لبلدانها الأصلية.

وقالت سويف، في مقالها المتضمن لأسباب استقالتها والمنشور على موقع لندن لعروض الكتب، إن هناك مسؤولية أخلاقية منوطة بالمؤسسات الثقافية، وينبغي على المتحف اتخاذ مواقف أخلاقية واضحة من موضوعات التغير المناخي والتفاوت الاقتصادي الهائل بين البشر وميراث عصور الاستعمار، إضافة لموضوعات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.

ولا تزال قضية الأعمال الفنية والآثار المنهوبة من بلادها الأصلية محل جدل كبير، حيث يعتقد البعض أن نهب التراث أمر خاطئ، ويجب أن تعود المسروقات إلى بلادها، بينما البعض يرى أن وجودها في بلاد أخرى هو أحد أنواع الترويج للحضارة، بالإضافة إلى أن البعض يعتقد أن الأعمال الفنية والآثار المنهوبة تلقى اهتماما في البلاد المضيفة لها، أكثر من ملاكها الشرعيين.

وتنشط حركة "إنهاء الاستعمار هنا" في قضايا حماية حقوق السكان الأصليين، وتحرير السود، والقضية الفلسطينية، وعدم المساواة الاقتصادية. وتركز على قطاع المتاحف والمؤسسات الثقافية، وتستهدف الميول الاستعمارية داخل عالم الفن.

ونظمت الحركة أنشطة عديدة بينها نشاط بمتحف بروكلين منتصف عام 2016 قام بالربط بين قضايا عالمية مثل حقوق السكان الأصليين في أميركا والقضية الفلسطينية، بمشاركة الناشط والأكاديمي الفلسطيني الأميركي أمين حسين.

هدم الجدران

يقترح الكاتب أولا أن تكون المتاحف مجانية مثل المكتبات. فقد أصبحت تكلفة دخول المتاحف الباهظة أمرا معتادا في بلد مثل الولايات المتحدة، إذ يبلغ سعر الدخول لمتحف الفن الحديث في نيويورك 25 دولارًا، ويدخل الأطفال دون سن 16 عامًا مجانًا، بينما الطلاب يدفعون 14 دولارًا، ويدفع من هم فوق 65 عامًا 18 دولارًا. وتلك مبالغ يصعب على العديد من العاملين في نيويورك تحملها، بحسب الكاتب.

في أعقاب تفشي الجائحة، أغلقت المتاحف أبوابها، واستضافت -إلكترونياً- مجموعة من البرامج المجانية، بما في ذلك ندوات عبر منصة إنستغرام وجولات افتراضية. ومع أن ذلك يعد تقدمًا جيدا، فإن هذه البرامج ما زالت تستهدف جمهورا محددا يقتصر على عالم الفن.

من شأن الوصول المجاني إلى المتاحف أن يوفر الفرصة أيضا لتغيير علم المتاحف، حيث تفرض الجماهير الجديدة الأكبر والأكثر تنوعا تغييرات في النظام والمرافق. ولكن بما أنه ليس من الممكن دعوة حشود أكبر إلى المتاحف في زمن الجائحة الحالي، فإن أدوات الواقع الافتراضي والإنترنت -مع كل العوائق التي تنطوي عليها، وبالأخص ضرورة الاتصال بالإنترنت- يمكن أن تمثل فرصة لمحاكاة كيفية إشراك جمهور أوسع دون رسوم للدخول.

أما الاقتراح الثاني، فيقوم على مساهمة الوصول للفنون في زيادة التعاون. وقد قدمت العديد من المتاحف خدمة مفيدة في رقمنة مجموعاتها، مما يتيح الوصول المجاني إليها. لكن الوصول وحده دون تبادل لن يكون كافيا، وشكّلت متاحف الأميركيين الأصليين مثالا في التعاون المجتمعي، حيث تحظى أنواع مختلفة من الخبرات بدرجة من التقدير تعادل المعرفة الأكاديمية للتاريخ الفني.

وأكد الكاتب أنه لا بد أن تصبح المتاحف فضاءات تحتضن مجموعة متنوعة من الخبرات والمعارف، وطالما أن ملكية المعرفة تقتصر على مجموعة معينة من الخبراء، فلن تكون هناك عدالة تمثيل أبدًا.