حسين الشيخ
الحروب والصراعات لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل إن الحروب متعددة الوجوه متناوبة بين الحروب الاقتصادية والسياسية والقانونية والدبلوماسية، ومنذ ما يزيد على العقد من الزمن وإيران في صدام مع المجتمع الدولي في مثل هذه الحروب علاوة على حروبها العسكرية التي تجتهد لتوسيع دائرتها على المحيط العربي والإقليمي، ولا شك أن إيران في هذه الحروب تبحث عن أي نصر أو بعبارة أدق تبحث عن أي وهم لتجعل منه نصراً مدوياً، ولعل آخر هذه الأوهام متعلق بمشروع القرار الأمريكي لتمديد قانون حظر الأسلحة على إيران الذي ينتهي في تشرين الأول/أكتوبر المقبل بعد ثلاثة عشر عاماً من دخوله حيز التنفيذ على خلفية الاتفاق النووي بين القوى الكبرى وإيران، فما كان من إيران إلا أن سوّقت الفشل باتخاذ القرار بعد أن قوبل برفض واسع له إذ لم تضطر كل من روسيا والصين إلى استخدام الفيتو الذي لوحتا به على أنه نصر مؤزّرٌ، ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا الأمر ليس نصراً بقدر ما يعكس الحالة المزرية التي تعيشها إيران بعد سنوات من العقوبات الاقتصادية التي في طريقها إلى التشديد أكثر فأكثر درجة أن الدول التي سعت لتطبيق القرار سابقاً لم تكلف نفسها العناء في خوض معركة تمريره السياسية؛ لعلمها بأنّ إيران اليوم حتى لو رفع عنها الحظر فلن يكسبها ميزة أو نصراً حقيقياً، مما يجعلنا متأكدين بأن هذا النصر ما هو إلا وهمٌ إذا ما عالجناه منطقياً ووفق التسويق الإيراني له، وذلك من جانبين:
أولاً: الجانب الاقتصادي: تعيش إيران اليوم أسوأ أزمة اقتصادية نتيجة لكلفة حروبها الباهظة والميليشيات التي تقتات على حساب أرزاق المواطن الإيراني ولقمة عيشه، الأمر الذي كلف طهران المزيد من الفواتير الاقتصادية التي لم تسهم إلا في شقاء الإيرانيين، وذلك بتجنيد الميليشيات الدموية في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان، بالإضافة إلى ضرب الاستقرار مع الجوار، الأمر الذي عزل إيران عن محيطها عزلة شبه تامة لا سيما بعد أن صارت حتى مؤسساتها العسكرية النظامية على قائمة الإرهاب، كإدراج الولايات المتحدة الحرس الثوري الإيراني على قائمة الإرهاب منذ ما يقارب العام، وما تمخض عن هذه السلوكيات المهددة لاستقرار الجوار والعالم من عقوبات اقتصادية نسفت الاقتصاد الإيراني على كافة المستويات الصناعية والتجارية والسياحية، وآخرها التي ضربت عماد الاقتصاد بعد أن طالت العقوبات قطاع النفط المورد الرئيس للاقتصاد الإيراني، ففي ظل هذه الظروف الاقتصادية التي لا يمكن وصفها إلا بالفقر المدقع والإشراف على حافة الانهيار، هل تستطيع إيران تمويل الأسلحة حتى وإن فشل قرار الحظر؟ بالطبع إن الجواب بكل بساطة هو "لا" والشواهد على ذلك كثيرة، فسوء الأوضاع الاقتصادية انعكس بصورة مباشرة على الميليشيات الإيرانية في لبنان والعراق وسوريا واليمن التي لم تعد كسابق عهدها من التمويل والتسليح، مما يضعنا أمام حقيقة مفادها أن إيران اليوم تعاني من الحظر ليس بقرار دولي وإنما بواقع اقتصادي مزرٍ، ولعل هذا الواقع هو الذي دفع الدول الكبرى التي ساندت القرار سابقاً إلى عدم الاكتراث به سواء نجح أم فشل كونه لا يقدم ولا يؤخر في واقع الأمر شيئاً.
تعيش إيران اليوم أسوأ أزمة اقتصادية نتيجة لكلفة حروبها الباهظة والميليشيات التي تقتات على حساب أرزاق المواطن الإيراني
ثانيا: الجانب السياسي: منذ اللحظة الأولى لفشل تمرير القرار علت الأصوات الإعلامية الإيرانية وعلى كافة منصاتها الرسمية والولائية بالتسويق "للنصر" على سياسة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" متباهية بأنه سيفقد منصبه وكأنه يدير سياسة شخصية، أما جوهر القضية يكمن في أن الولايات المتحدة ليست دولة أشخاص إنما هي دولة مؤسسات تسير في سياق عام من السياسة التي لا هم لها سوى المصلحة الأمريكية والمحافظة على الهيمنة وسيادة العالم للاحتفاظ بلقب الدولة العظمى، الأمر الذي يجعل من الرئيس الأمريكي – بصرف النظر عن الأسماء والحزب الذي ينتمي إليه – إنما هو موظف مسؤول عن إدارة دفة السياسة العامة وفق مقتضيات المصلحة الأمريكية، التي تضع ملفاتها على طاولة الرئاسة مؤسساتٌ متخصصة لا تأخذ بالاعتبار أية دوافع شخصية، فإن كان للرئيس الأمريكي حرية باختيار الأسلوب واعتماد الآلية لبلوغ الهدف العام، إلا أن الوصول إلى الهدف والغاية والمصلحة المؤسساتية لا بد منه، وبعبارة أخرى فإن الوصول إلى الغاية لا يجعل من اختلاف الوسيلة قضية تذكر، فإن كان هذا – جدلاً - نصرا لإيران، فما هو إلا نصر زائف على الأسلوب فقط وليس نصراً بهزيمة السياسة، لا سيما وأن الأمريكيين ديمقراطيين وجمهوريين قد اتفقوا على وضع حد للسلوك الإيراني، مما يجعل من هذا التسويق للنصر في تغيير مزاج الناخب الأمريكي ما هو إلا نصر فارغ لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة لواقع "طهران" السياسي والاقتصادي شيئاً، إلا أن تستقبل المزيد من الضغوط والعقوبات الاقتصادية التي تشل إيران بكل مفاصلها التنموية والإدارية فضلاً عن العسكرية.
وفي نهاية المطاف لا يمكن لنا أن نتصور نصراً، فكل حدث كبر أم صغر إذا لم ينعكس على الواقع السياسي والاقتصادي بدفعه نحو الأفضل، أو لم يكن من شأنه أن يعيد الحركة إلى العجلة الدبلوماسية في مسيرتها نحو الاندماج بالمحيط الإقليمي والمجتمع الدولي لإيران، فما هو إلا نقطة بداية أخرى لصراع ومعركة من نوع آخر، إن لم تدمرها فإنها لن يكون من شأنها إلا جعلها على الهيكل وعلى حافة الانهيار في واقع أكثر مرارةً لا يعرف مداه إلا المواطن الإيراني الذي بات على حافة الجوع.