ميثم مهروش
من الأحداث التي أثارت مؤخرًا انتباه الإعلام الدولي إلى السياسة الداخلية لإيران وقضاياها الأمنية هي الاعتقال المفاجئ للسيدة ميمنت حسيني تشاوشي، المواطنة الإيرانية – الأسترالية، والباحثة في مجال الديموغرافيا والخصوبة بجامعة ملبورن في أوائل ديسمبر الماضي، فوفقا لبعض التقارير، قامت قوات الأمن في نفس الوقت باستدعاء زميلها، محمد جلال عباسي شوازي، أستاذ الديموغرافيا في جامعة طهران ومدير مؤسسة البحوث الديموغرافية في إيران، وخضع للاستجواب.
اتهمت وسائل الإعلام القريبة من الاستخبارات والمؤسسات الأمنية في إيران هؤلاء الباحثين باختراق دوائر اتخاذ القرار في مجال إدارة الديموغرافيا، والعمل من أجل وضع العراقيل أمام سياسات النظام العامة في هذا السياق.
السيدة حسيني تشاووشي والسيد عباسي شوازي وبيتر مكدونالد هم مؤلِّفو كتاب «مسيرة الخصوبة في إيران: التحول والتكاثر» الذي نال عام 2010 جائزة الكتاب السنوي العالمي من وزارة الثقافة والإرشاد الإيرانية، كما وقد نشروا مقالًا مشتركًا العام 2015، ناقشوا فيه التهويل الخاص بأزمة الديموغرافيا في إيران بالإحصائيات والأرقام الجديدة، مطالبين بتبنّي مقاربة «معتدلة» لموضوع استمرارية الخصوبة في إيران.
رغم شعبية هؤلاء الخبراء، وقبولهم بين الأوساط العلمية والجامعية داخل إيران وخارجها، يبدو أن السبب الرئيسي وراء التعامل معهم أمنيّا هو اختلافهم مع نهج الحكومة والسياسات العامة للنظام الإيراني، القائمة على ضرورة زيادة عدد السكان في إيران ضعف ما هي عليه الآن، فقد وصف خامنئي في كلمة له أكتوبر 2012 سياسات تحديد النسل بعد الحرب الإيرانية العراقية بالخطأ، قائلًا: «أحد الأخطاء التي ارتكبناها هي أننا منعنا تزايد السكان منذ منتصف الثمانينات، وارتكب المسؤولون بذلك خطًأ، وأنا أيضا منهم، فأرجو من الله -سبحانه وتعالى- ومن التاريخ أن يغفر لنا».
كما أكد خامنئي في صيف العام نفسه أن عدد سكان إيران يجب أن يصل إلى 150-200 مليون شخص.
تزايدت حساسيات المسؤولين الإيرانيين تجاه ما يصفونه بـ«مشروع الاختراق» بعد التوقيع على الاتفاق النووي، وإثر تحذيرات المرشد حول احتمال اختراق العوامل الأجنبية أو المرتبطة مع الخارج للدوائر الخاصة بوضع السياسات، واتخاذ القرارات.
تأمين التخصصات غير المنسجمة مع معتقدات النظام، ومن ثَمّ المواجهة العنيفة مع الباحثين والخبراء الجامعيين، الذين يحملون آراءً تتباين عن الأيديولوجيا الحاكمة، والسياسات الرسمية للدولة في مجالات خاصة -ولا سيما بين الجامعيين ذوي الجنسية المزدوجة- تُعد ظاهرة رائجة نسبيّا في إيران بعد الاتفاق النووي، ولا تقتصر على ما ذكرناه.
وربّما النموذج الأكثر إثارة للجدل في هذا النطاق، هو موضوع كاوه مدني، الخبير المعروف في قضايا البيئة، أستاذ كلية لندن الإمبراطورية، الذي عُيِّن في سبتمبر 2017 بعد عودته إلى إيران مساعدًا لرئيس منظمة حماية البيئة الإيرانية للشؤون الدولية، غير أنه في نهاية المطاف وخشية أن يتهم بالنفوذ، واختراق الدوائر الحكومية والتجسس عليها، غادر إيران في أبريل الماضي.
وأشار مدني بُعيد مغادرته إيران في مقابلة مع بي بي سي إلى مواجهة القوات الأمنية معه فور وصوله إلى إيران قائلا: "منذ اليوم الأول تعرضتُ للضغوط، حيث خضعت للاستجواب فور دخولي إلى طهران، وقاموا بفحص بريدي الإلكتروني، وحساباتي على شبكات التواصل الاجتماعي دون إذني، وقد حاولت أن أثبت براءتي هناك، وقلت لهم: إني عدت كي أخدم بلدي، وحاولت أن أتفهم سبب قلقهم، وأن أوضح لهم برنامجي بشكل شفاف، وأُبين لهم سبب عودتي إلى إيران بعد 14 عاما".
قبل أن يغادر مدني إيران، أثار موضوع كاووس سيد إمامي، المواطن الإيراني – الكندي، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الإمام الصادق، القلق حول تأمين الأنشطة العلمية والجامعية، التي تُجرى في إطار مكافحة التجسس والاختراق.
وكان الهدف هذه المرة ناشطي البيئة، فرغم أن سيد إمامي لم يكن خبيرًا جامعيًّا في مجال قضايا البيئة، لكنه كان عضوًا في هيئة إدارة «مؤسسة بارسيان لتراث الحياة البرية» وناشطًا بارزًا في مجال البيئة في إيران.
وأحدث خبر اعتقال سيد إمامي -الذي تتلمّذ عنده في جامعة الإمام الصادق بعض كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين في الحكومة، مثل: سعيد جليلي- مفاجأة للكثيرين، لكن هذه المكانة الخاصة والعلاقات العملية والاكاديمية الوثيقة مع المسؤولين السابقين والحاليين لم تحل دون موته المشبوه في السجن، الذي عَزَته السلطات القضائية إلى الانتحار.
كان سيد إمامي أستاذي المساعد في أطروحة الماجستير في جامعة طهران، وقد زرته في بيته مرارًا، وكانت لديّ علاقات وثيقة معه، حتى بعد مغادرتي إيران في العام 2012، وقبل اعتقاله بشهرين بعث لي سيد إمامي رسالة قصيرة، مؤكدًا أنه ينوي السفر إلى كندا لفترة؛ للقيام ببعض
كان كاووس سيد إمامي معروفًا بين أصدقائه بحب الطبيعة والسفر، ولم يكن شخصية تنزع للانتحار، ولم أستشمّ من مراسلاتنا أي علامة تدل على الكآبة أو الميل للانتحار، واللافت هو أنه كان من معارضي الحرب والعقوبات على إيران، ويدعم فكرة تعزيز القدرات الدفاعية والرادعة للبلاد للحيلولة، دون أي هجوم عسكري ضد إيران.
قال لي نجله مهران سيد إمامي في مقابلة أجريتها معه: "كان والدي يشارك في الانتخابات المختلفة، ويساند فكرة المشاركة الفاعلة للمواطنين، ويعارض بشدة الحرب والعقوبات، وكان قلبه ينبض لإيران والبيئة والناس، وكان طلابه وزملاؤه وأصدقاؤه يعرفون مواقفه هذه".
وينبغي اعتبار الاعتقال القاتل لهذا الأستاذ الرائد وصاحب السجل اللامع، علامة بارزة على تغيير السياسة الأمنية في «الجمهورية الإسلامية» تجاه الأكاديميين والمتخصصين، الذين يقيمون في الخارج، وبداية تشكيل نظام أمني عدائي، وهذه عملية تثير الذعر، ولا تفرق فعليًّا بين الصديق والعدو والوطني والخائن، وذلك كلّه من أجل تحقيق أهداف أيديولوجيّة مؤقتة.
النظام الذي لا يحتمل كاووس سيد إمامي يشبه الجسم المصاب بمرض المناعة الذاتية «Autoimmune disease» فبدل أن يستهدف جهاز المناعة في الجسم الفيروسات والبكتيريا الضارة، يهاجم الأعضاء العادية والأعضاء السليمة فيه، وأقل تبعات مثل هذا الخلل هي التعب المزمن، وعدم الفعالية الممنهجة التي نشاهدها كثيرًا في الجمهورية الإسلامية.
هذه ليست الحكاية كلّها، وللنظرة الأمنية تجاه الجامعيين والخبراء المقيمين في الخارج أبعاد أخرى أيضًا، يجسد بعضها في اعتقال أحمد رضا جلالي، المواطن الإيراني – السويدي، والخبير في طب الكوارث «disaster medicine» في معهد كارولينسكا السويدي، فقد اعتُقل جلالي في أبريل 2016، ومن ثَمّ حُكم عليه بالإعدام بتهمة التجسس لإسرائيل، وبما أنه كان يتعاون مع وزارة الدفاع في بعض المشروعات العلمية فقد اتُّهِم بنقل المعلومات إلى جواسيس الموساد، مساهمًا بذلك في اغتيال العلماء النوويين، ومنهم: مسعود علي محمدي (في يناير 2010) ومجيد شهرياري (في ديسمبر2010).
أكد جلالي وبعض أعضاء أسرته أن اعترافاته التي بثها التلفزيون الإيراني في هذا المجال كانت تحت الضغط، ولا تتمتع بأي مصداقية.
ووفقًا للأدلة المتاحة يبدو أن اعتقال جلالي ومحاكمته، محاولة من جانب بعض أجهزة الاستخبارات في البلاد؛ للتغطية على مكامن الضعف، وعدم الكفاءة القائمة في أركان النظام، التي كان يمكن تفاديها، لأن الاستمرار الغريب لمكامن الضعف هذه وتكرار تبعاتها الكارثية خلال الأعوام الماضية -كاغتيال العلماء النوويين، والانفجار الغامض في منطقة بيدغنه، الذي أسفر عن مصرع 35 شخصًا، منهم: حسن طهراني مقدم أبو البرنامج الصاروخي الإيراني، وفي النهاية سرقة الموساد لأكثر من نصف طنٍّ من الوثائق النووية الإيرانية- لا يمكن تفسيره إلا من خلال الفساد المستشري، والمناحرات الداخلية بين المؤسسات الموازية في الدولة.
وقد أكّدت لي السيدة ويدا مهران نيا، زوجة أحمد رضا جلالي، في مقابلة أجربتها معها، أن أحمد رضا كان له سجلٌّ من التعاون مع وزارة الدفاع، و«بضعة جامعات ومؤسسات بحثية حكومية» وكلها كانت عادية، وفي نطاق إدارة الكوارث والحوادث صحيّا وعلاجيًّا.
وأضافت مهران نيا: «إن زوجها لم يشارك خلال تلك السنوات في قضايا ترتبط بملفات أمنيّة سريّة، وفي ملفه توجد قائمة من المشروعات والمراكز التي كان يتعاون معها، فلا توجد أي وثيقة تدينه إلا مزاعم وزارة الاستخبارات المخالفة للحقيقة».
وتصف مهران نيا في مقابلتها الأسباب التي أدت إلى استهداف زوجها قائلة: «قضية أحمد رضا هي التضحية بشخصٍ برىءٍ لملء الثغرات الأمنية، وتوجيه الاتهام زورًا إلى برئ لتبرير أوجه ضعف النظام الأمني والاستخباراتي، الذي لم يستطع أن يصون المعلومات النووية وحياة العلماء، والآن هم يريدون إلقاء اللوم على برئ من خلال اتهامات ليس له أي علاقة بها، لا فنيًّا ولا زمنيًّا ولا مكانيًّا.
فمن أسباب التضحية بأحمد رضا سعي النظام للتستر على عدم كفاءة الأجهزة الأمنية، وإرسال تقارير إلى السلطات الأعلى حول عثورهم على المجرمين، وإثارة الرعب والخوف بين الباحثين الشاغلين في المؤسسات التابعة لوزارة الدفاع والجامعات والوكالة الإيرانية للطاقة النووية – وفقا لتصريحات قوى الأمن نفسها – وذلك من أجل أن يمتثلوا لأوامر الأجهزة الأمنية، ومشكلة أحمد رضا أنه رفض الامتثال للأجهزة الأمنية، ولم يتعاون معها، ولهذا السبب انتقموا منه».
وفي هذا الصدد تضيف زوجة السيد أحمد رضا جلالي: «علاوة على المئات من الوثائق المعتبرة التي تفند الاتهامات الموجهة لأحمد رضا، فقد جرى اغتيال السيد مسعود علي محمدي قبل أن توجه وزارة الاستخبارات الاتهام إلى أحمد رضا بثلاثة أو أربعة أشهر، وهذا يعني أنه متهم باغتيال شخص متوفى منذ فترة.
أما عن السيد مجيد شهرياري، فقد أعلنت زوجته، السيدة بهجت قاسمي، في مقابلة مع صحيفة خراسان قبل أشهر، أنهم علموا قبل اغتياله بست أو سبع سنوات، أي: في العام 2003، بأن منظمة مجاهدي خلق قامت بجمع المعلومات عنه، وإرسالها إلى إسرائيل، وأن اسم زوجها كان ضمن قائمة الاغتيالات، فلم تستطع القوات الأمنية أن تحول دون وقوع الاغتيالات، والآن يقولون: إن أحمد رضا هو الذي بعث بالمعلومات إلى إسرائيل في العام 2010، ما أدى إلى التعرف على العالمَيْنِ واغتيالهما، فيما تؤكد الوثائق المنشورة أن إسرائيل والولايات المتحدة كان لديهما منذ العام 2005 المعلومات عن علي محمدي وشهرياري».
يقول جلالي في رسالة له تسربت من داخل سجن إيفين، وانتشرت عام 2017: «أن سبب اعتقاله هو رفضه التجسس لصالح وزارة الاستخبارات».
واللافت أن حميد بابائي، طالب مرحلة الدكتوراة في تخصص الشؤون المالية في جامعة لييج البلجيكية قد طرح أسبابًا مماثلة حول اعتقاله، فقد اعتُقل في ديسمبر 2013 لمدة ست سنوات بتهمة تهديد الأمن القومي من خلال «علاقات مع دول معادية» لكنه أكّد أن السبب الحقيقي لاعتقاله هو رفضه طلب وزارة الاستخبارات للتجسس لصالح الحكومة.
كما يمكن الإشارة إلى جامعيَّيْنِ وباحثيْنِ آخرين، تمت مواجهتهم بذرائع «التجسس» و«الاختراق» و«محاولات ناعمة لإسقاط النظام» ومنهم عباس عدالت، أستاذ الرياضيات في جامعة لندن الإمبراطورية، وأُميد كوكبي، الباحث في فيزياء الليزر في جامعة تكساس،وكاميار وآرش علائي، وهما خبيران إيرانيان – أميركيان في مرض الايدز، وهالة اسفندياري، المديرة السابقة لبرنامج الشرق الأوسط، في مركز وودرو ويلسون الأميركي، وهُما هودفر، الأستاذة الإيرانية – الكندية في علم الانسان، وكيان تاج بخش، الباحث الإيراني – الأميركي في مجال تخطيط المدن، رامين جهانبغلو، الفيلسوف الإيراني – الأميركي، وغيرهم.
ويعود التعامل الأمني مع الخبراء غير المنسجمين مع سياسة النظام والمرتبطين بالخارج إلى مضاعفة الشعور بفقدان الأمن، وانتشار توهّم التهديد «threat perception» داخل الجهاز السياسي – الأمني الحاكم في إيران.
وهذه السياسة مرتبطة إلى حدٍّ ما بتصاعد الضغوط الخارجية على الحكومة الإيرانية من جهة، وتطور الاحتجاجات الداخلية ضد أسلوب حكم قادة الجمهورية الإسلامية، لكن وكما ذكرنا لا يمكن أن ننفي بسهولة أن الأجهزة الأمنية -في بعض الحالات- توجّه تُهمة «التجسس» إلى الجامعيين والمختصّين؛ للتستر على مكامن ضعفها، وتبرير تبعاته المروّعة.
في حالات أخرى تخشى السلطات الأمنية أن تؤدّي اكتشافات العلماء واقتراحاتهم إلى حدوث تغييرات في الساحات الاجتماعية والاقتصادية والبنية السياسية للبلاد، ما يؤدي بدوره إلى إضعاف الأسس المبدئية والأيديولوجية للنظام الحاكم.
ومع ذلك فالموضوع الأساسي والمهم الذي يغفل عنه بعض المحللين، هو أن الجمهورية الإسلامية خلال العقود الأربعة الماضية قامت بتحديد مصالحها وهويتها؛ بحيث إن مقولات علميّة متعارف عليها، كإدارة السكان والمواد الطبيعية القائمة على المعرفة، والتعليم والاتصالات الحديثة، والجهد المنطقي لخلق بيئة مستدامة، أصبحت تقع جميعها ضمن دائرة «التهديد».
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية