يحتار قارئ رواية "في انتظار الطوفان" للكاتبة الفرنسية الغوادلوبية ماريز كوندي (1937)، من أين يمسك بالمصائب المتهافتة على الشخصيات. فبين الفقر والتهميش والظلم والعبودية والاستبداد السياسي والحروب اللاحقة للاستعمار والتهافت على السلطة والكوارث الطبيعية، شخصيات تجسد هموم شعوب ممزقة متهافتة تبحث عن وطن.
نص يحمل هموم شعوب اجتمعت في أفريقيا بقصصها ومآسيها، ليتحول السرد فجأة إلى بوابة نحو عالم أفريقيا الحالك الحزين، فتقول كوندي بهدوء يقنع الألم، "ليست أفريقيا تلك الأم للجميع ذات الثدي السخي، التي يتباهى بها كل واحد. ليس ثمة أرض أكثر لا مساواة منها ولا عديمة الشفقة على الضعفاء مثلها." (ص: 83).
صدرت رواية كوندي "في انتظار الطوفان" في ترجمة عربية جيدة وجميلة أنجزها الكاتب السوري معن عاقِل (دار الآداب، 2021) لتضيف رائعة من روائع الأدب العالمي إلى المكتبة العربية. وكوندي الحائزة الجائزة البديلة لجائزة نوبل عام 2018، أي في السنة التي حُجِبَت فيها الجائزة لأسباب داخلية، تُعد من أبرز الأصوات الحاملة لهموم الشعوب التي لا تزال تحمل آثار الاستعمار والاستعباد في تاريخها المعاصر، وبخاصة الأفريقية منها.
وقد وصفت اللجنة المانحة للجائزة نصوص كوندي بأنها "تسرد ويلات الاستعمار وفوضى ما بعد الكولونيالية بلغة دقيقة وبالغة التأثير على حد سواء، وهي تستحضر في رواياتها الأموات إلى جانب الأحياء في عالم يتم فيه تناول الجَنسية والعرق والطبقة باستمرار وفي قوالب جديدة".
ويكتشف قارئ "في انتظار الطوفان" أن توصيف اللجنة دقيق وصحيح، فالرواية بأسرها قائمة على شخصيات تدور في أفريقيا معذبة ممزقة تعاني من العنف والديكتاتورية واللامساواة. فبين هاييتي أقدم جمهورية من أصل أفريقي في العالم، ومالي الرازحة تحت نير الانقلابات المتكررة، تظهر شخصية فؤاد الحامل هموم الفلسطينيين والعرب على كاهله، ليكتمل مشهد البؤس والألم، "هذه هي أفريقيا الجديدة، أفريقيا التي لا يجرؤ أحد أن يتحدث عنها" (ص: 27).
يُفتتح السرد في نص ماريز كوندي على صورة رائعة تجسد حقيقة الألم، فيكتشف القارئ أن البكاء الكثير والمر يغير لون العينين. البكاء الناجم من العبودية والإقصاء والبؤس والتشتت والهرب والخوف يسيطر على الأمور كلها فتقول كوندي "في البؤس حتى الحليب يصبح مراً" (ص: 41).
وبعيداً عن التقنيات السردية التي تسير بالقارئ نحو حبكة مبتكرة وتطور للشخصيات، تجسد كوندي شخصيات عالقة في دول عبثية عنيفة تتأرجح بين الانقلابات والاغتيالات وتصفية الحسابات. لا تطور للشخصيات، لا آفاق جديدة، لا قصص حب، لا صورة للعائلة. في الرواية كلها محاولات هرب، محاولات إيجاد الأمان والانتماء. فعدا عن العنصرية واللامساواة اللتين تؤطران المجتمع وتحكمان العلاقات بين أهله، يتجسد الكائن البشري بأقسى حلله، فالوحشية والجشع والطمع هي سيدة الموقف، الجميع يريد السيطرة، الجميع يريد الإمساك بزمام الحكم، ووحدهم الفقراء والضعفاء الذين لا نصير لهم يبتلون بالعواقب، فتقول كوندي في محاولة منها لشرح هذا المأزق الوجودي البشري المرهق، "أساس المشكلة هو السعي إلى السلطة. كل البلاء يأتي منها" (ص: 95).
لكن المشكلات السياسية تنتقل لتسري في عروق الشعوب، فعدا عن التحزب والانتماء إلى جبهات متقاتلة متناحرة وميليشيات قاسية تقتل لمجرد القتل، تصبح العنصرية أساس المصائب كلها ولا أحد مقبول تماماً، فتقول شخصية الطبيب باباكار، "ما أقسى الحياة التي نعيشها! البعض لا يحب البيض، وآخرون لا يحبون السود. وهؤلاء لا يحبون الشماليين، وأولئك لا يحبون الجنوبيين" (ص: 136). تفتك العنصرية ويعشش الحقد في النفوس ليصبح الجميع مرفوضاً، ليصبح الجميع ضحية.
يلاحظ قارئ "في انتظار الطوفان" أن الشخصيات كلها تسير في حلقة مفرغة. يهرب المرء من مالي إلى هاييتي أو العكس، يهرب المرء من فلسطين أو لبنان إلى أفريقيا أو العكس، يهرب المرء من أي دولة في العالم الثالث إلى أي دولة أخرى من هذا العالم الحزين ويبقى التشرد واحداً. فتقول كوندي بمرارة حقيقية تجسد الألم كله، "نحن بحاجة إلى وطن" (ص: 177). الجميع يبحث عن وطن، يبحث عن انتماء، يبحث عن بقعة بلا مصائب ولا جرائم ولا عنف ولا قسوة. البطل نفسه الذي هو طبيب، يتعرض لمواقف متعددة من ضرب وتعذيب وسجن لمجرد لونه أو عرقه أو لهجته أو أصله، فيقول باباكار، "دياري؟ لم أكن أعرف أين هي دياري!... كنتُ بلا وطن" (ص: 92).
ولا يمكن الحديث عن شعب بلا وطن ولا انتماء، من دون إدخال شخصية الشاب الفلسطيني الذي تلاحقه الأحكام المسبقة أينما حل. ففؤاد الشاب الذي لا يعترف بأنه فلسطيني لئلا يثير ريبة المحيطين به، يجسد في هذا الفضاء الأفريقي القضية الفلسطينية، فيقول، "أنا لستُ لبنانياً. إنني فلسطيني. لكنها هوية تثير الخوف. ذاك اللفظ يخفي كثيراً من الآلام، وسلب الحقوق والذل. على المرء أن يكون جان جينيه حتى يحبونا. وما عدا ذلك تخلى العالم عنا" (ص: 171.)
ويكتشف القارئ أن هذه الكاتبة الفرنسية من أصول أفريقية تعرف تمام المعرفة تفاصيل الواقع العربي أو الشرق أوسطي على وجه التحديد، فنراها تصف المجتمع اللبناني وأهله وعلاقتهم بالفلسطينيين، كما تصف بؤس المخيمات وعلاقة الفلسطينيين ببعضهم بعضاً، وهو أمر لا يتوقعه القارئ العربي أبداً. هكذا يبقى الهدف الوحيد الذي يسير هذه الشخصيات المشتتة الحزينة هو البحث عن الوطن. يبقى البحث عن وطن هو وحده ما يحرك السرد، "ماذا لو كنتُ هربتُ مع أزيليا إلى بلاد نتمتع فيها بحرية الحب والعيش على هوانا؟ لكن هل توجد مثل هذه البلدان؟ وأين هي؟" (ص: 143.)
وفي خضم حديثها عن الأوطان والظلم والديكتاتوريات وأفريقيا التي لا تعرف كيف تزيل عن نفسها معطف الألم والعنصرية، تعتمد ماريز كوندي أسلوباً سردياً يميل إلى الحكاية أو السرد الشفهي. فيراها القارئ تقسم نصها إلى حكايات وتخبر قصة كل شخصية على حدة، وكأنها تمسك بيد قارئها وتسير به في متاهات أفريقيا ودول البؤس، فيرد في مواضع متعددة أسلوب الخطاب المباشر مع القارئ، "لنرجع في الزمن" (ص: 24)؛ "لنعد إلى قصة ثيكلا وباباكار تراوري الأول التي قطعناها" (ص: 63)؛ "لنتابع موفار في طريقه إلى لابادي" (ص: 262). إضافة إلى أسماء فصول متعددة هي على غرار، "حكاية فؤاد" (ص: 171)، و"حكاية رورو ميجي" (ص: 219)، و"حكاية ستريلا" (ص: 235). تتحول خريطة البؤس هذه، إلى ما يشبه "ألف ليلة وليلة" جديدة مشحونة بقصص كثيرة، إنما من الواقع الحزين وليست من الأساطير البعيدة.
يتحول السرد إلى مجموعة قصص وحكايات، تتحول الشخصيات إلى وجوه تشترك في الألم، لكن لكل منها منهل البؤس الخاص بها، لتتشكل فسيفساء البؤس الأفريقي والعربي في الوقت نفسه. وفي ظل هذه السوداوية الواقعية الحقيقية الموجعة يبقى الموت هو المسيطر على المشهد بأسره. موت جراء مرض أو حرب أو قتل أو كارثة طبيعية، موت يؤطر ويغلف ويبطش ويفتك و"ينتصر على الحياة باستمرار" (ص: 19).
"في انتظار الطوفان" رواية ماريز كوندي الموجعة، هي رواية انتظار الموت والمزيد من الحزن في عالم لا مكان للحلم والحب والجمال فيه. وبدلاً من أن تنتظر الشعوب الخلاص، نراها تترقب المآزق والمآسي وتنظر باستمرار حولها خشية غدر الزمن أو البشر. "في انتظار الطوفان" هي رواية الحزن الثقيل والوحدة القاتلة والأيديولوجيات المنهكة، رواية الأوطان التي لا تنفك تقتل وتفتك لتأتي خلاصة المأساة كلها أن "لا شيء يستحق الموت لأجله، لا وطن ولا قائد ولا عقيدة، لا عرق ولا فئة ولا لون يستحق الموت لأجله، فهل من صوت لمن ينادي؟ هل من يسمع أنه "مهما تدهورت حال الحياة، فإنها تظل الأثمن" (ص: 106)؟