رستم محمود
قبل تسلمه لأي منصب حكومي بارز، فإن الرئيس الأميركي المرتقب، جوزيف بايدن، عُرف في منطقة الشرق الأوسط اعتباراً من العام 2007، حينما كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية داخل مجلس الشيوخ الأميركي، وقاد حملة سياسية وإعلامية شاملة وقتئذ، بما في ذلك الاتصال بالدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، ترويجاً للخطة غير الملزمة التي تبنها مجلس الشيوخ الأميركي في خريف ذلك العام، التي كانت تدعو إدارة الرئيس جورج بوش الابن لـ"تقسيم" دولة العراق إلى ثلاثة كونفدراليات سياسية، تشغل كل واحدة منها أغلبية أهلية ما، شيعية جنوباً وكردية في الشمال وسُنية في الوسط، وأن تتحد الكونفدراليات الثلاث لتشكل دولة العراق الحديثة، تكون تلك الصيغة حلاً للحرب الأهلية العراقية، التي كانت في أوجها وقتئذ.
في ذلك العام، كانت الإدارة الأميركية تعيش ذروة تعرقل/فشل مشروعها السياسي الموعود للعراق، وتالياً للمنطقة، بعد نجاح سريع لخطة غزوها العسكري للعراق في ربيع العام 2003. فبعد الحرب مباشرة، أثبتت النخب السياسية العراقية سريعاً عدم قابليتها لأن تكون تنظيمات وقوى سياسية حداثوية، تكرس نظاماً سياسياً عراقياً مدنياً وديمقراطياً، يخلق من العراق نموذجاً كان متخيلاً في خطابات المحافظين الأميركيين الجدد، شيء شبيه بما جرى قبل قرابة نصف قرن في كُل من ألمانيا واليابان. بل على العكس تماماً، فقد كانت نُخبة الحُكم العراقية آلة عُظمى للنهب العام، إلى جانب ولاء إيديولوجي وسياسي لدولة خارجية –إيران- فاق بكثير أي ارتباط روحي أو سياسي لها ببلادها، الأمران اللذان حضراً الأرضية المناسبة تماماً لاندلاع الحرب الأهلية الطائفية، التي أغرقت العراق في بحر من الدماء، وما يزال.
جزء وفير من النُخب السياسية الأميركية، بالذات عبر المؤسسات التشريعية الأميركية، كانت ترى في مشروع الكونفدرالية حلاً معقولاً لإنقاذ العراق، وتالياً إخراج الولايات المتحدة من أوحال تلك المنطقة. فمشروع بايدن وقتئذ لم يكن يتناقض مع النزعة الانسحابية للولايات المتحدة من الحروب العالمية، والتي كان الحزب الديمقراطية يرفعها لوائها منذ أعوام كثيرة، التي كرسها الرئيس أوباما بالانسحاب العسكري شبه الكامل من العراق، بعد اتفاق الإطار الاستراتيجي لعلاقة للصداقة والتعاون بين الولايات المتحدة والعراق. لكن أفكار بايدن كانت تدعو لانسحاب مسؤول، لا يترك فراغاً جيوسياسياً غير محسوب العواقب، وهم ما لم يلتزم به الرئيس أوباما، بالرغم من أن بايدن كان نائبه، لكن الرئيس فضل الالتزام الحرفي بما عرضه خلال حملته الانتخابية.
لم تكن إدارة الرئيس أوباما وحدها من حالت دون تنفيذ المشروع الكونفدرالي، بل أن تحالفاً سياسياً ثلاثياً شديد الصلابة، أعاق ذلك جوهرياً.
فالقوى السياسية الشيعية العراقية المركزية الحاكمة، كانت تتطلع إلى لحظة الخروج العسكري والسياسي الأميركي من العراق، لتكرس نظام حاكم مركزي، يغدو العراق بكله جزء من فضاء حُكمها وحدها. كانت تلك القوى الشيعية تخطط لذلك، وتعتبر الكونفدرالية مضاداً نوعياً لنزعاتها المركزية تلك.
القوى الشيعية تلك، كانت تتلقى دعماً مفتوحاً من قِبل إيران، التي كانت تمني النفس بملء الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة في العراق، وأن تكون هيمنتها كاملة، دون أية أعاقة سياسية أو دستورية، تلك الهيمنة التي يمكن للنظام الكونفدرالي أن يعرقلها تماماً.
شكلت القوى والنخب السياسية السُنية العراقية رديفاً مباشرة لقوة الممانعة تلك. ففرط الحس الإيديولوجي القومي والطائفي المكتنز في ذوات تلك القوى والنخب السُنية، كان يحول بينها وبين الاعتراف بالوقائع العراقية المباشرة، التي كانت مفتوحة على مذبحة كبرى.
لم يُترجم مشروع بايدن إلى أي واقع سياسي قط. بمعنى أوضح، انتصرت قوى الممانعة المركزية على أية رؤية تعترف بالوقائع وتحاول أن تضع حلولاً مناسبة. لكن، وغالباً لأجل ذلك بالضبط، جرى كل ما جرى منذ ذلك الوقت. بقي العراق غارقاً في حروب أهلية مفتوحة، منقسماً بشكل شاقولي، طائفياً وعرقياً ومناطقياً، وموطئاً لنهب عام دون حد وحساب، تعرض لغزوات وحشية وخاض حروباً حطمت مدنه وحواضره التاريخية، تراجعت فيه كل أشكال الحياة المدنية وأسس الديمقراطية، وأولاً بلداً محكوماً من مليشيات طائفية من خارج القانون.
اليوم، تبدو منطقتنا غارقة تماماً في الكثير مما كان عليه العراق وقتئذ. فمن إيران إلى لبنان، مروراً بسوريا وتركيا والعراق، وحتى أبعد الكيانات التي مثل السودان وليبيا، تبدو المركزية السياسية والإيديولوجية منبعاً وعتبة أولية لتكريس الفشل وصرعات "الأخوة الأعداء" ضمن البلد الواحد، المركزية المستندة على تراث مريع من الخطابات القومية والوطنية والدينية والمذهبية، والتي هي في جوهرها نزعات لتكريس هيمنة واحدة من الحساسيات الأهلية ضمن هذه الكيانات، على حساب حقوق باقي المكونات الأهلية. وهي نفسها المركزية التي تنتج عملياً أنظمة شمولية تعتمد على الزبائنية وتحويل الأطراف والجهويات إلى مجرد مستعمرات داخلية، موردة للمواد الخام والعاطلين عن العمل فحسب، نحو المدن المركزية المتخمة بالعشوائيات.
لكن في نفس الوقت الذي ما تزال فيه أوضاع منطقتنا هكذا تفصيلاً، فأن قوى الممانعة الثلاثة المذكورة سابقاً، ما تزال بكامل صحتها السياسية والإيديولوجية. فالنظام السياسي الإقليمي يمانع تماماً أي مشروع نحو كونفدراليات رحبة، تؤيده داخلياً قوتان سياسيتان ضخمتان، واحدة تعتبر المركزية أداة لهيمنتها على كافة حساسيات البلاد، وأخرى رومانسية مأخوذة بخطابات عصر الناصرية السياسية. في كلا الحالتين، يشكل البعثيون والإخوان المسلمون، وفي كل دولة حسب تنظيماتهما الخاصة، القوى الأكثر شبهاً بذلك الجوهر الناصري، وهي مستندة إلى دعم مطلق من قِبل القوى الإقليمية، أمثال ملالي طهران وسلاطين أنقرة.
لأجل ذلك بالضبط، فأن الإدارة الأميركية أمام حلين قطبيين، فإما الانخراط التام في ملف هذه المنطقة "الموبوءة" ووضع حلول من مثل تلك الكونفدراليات، التي تضع حداً معقولاً لمنابع كل أشكال القيح الراهنة. أو أن تنسحب من ملفاتها، وتالياً تتحمل ما قد يترتب عن ذلك من آثار، وعلى كل بقعة في العالم.