عبدالله بن بجاد العتيبي
مصائر الدول رهنٌ بقياداتها وقراراتها ورؤيتها، فمن اختار الماضي بقي فيه، ومن اختار المستقبل وصل إليه، وفي منطقة الشرق الأوسط مشروعان كبيران، مشروع ينتمي للماضي ويجعله أصلاً وفرعاً هو الحاكم له، ولا يستحضر منه إلا الطائفية المقيتة والتوحش والإرهاب، وهو مشروع إيران، ومشروعٌ ينتمي للمستقبل يرد إليه ويصدر عنه، وهو مشروع السعودية الجديدة، سعودية الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
بعد يومٍ من نشر هذه المقالة، تدخل العقوبات الأميركية الأقسى على إيران حيز التنفيذ، وهي عقوباتٌ تقع ضمن الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران، التي أعلن عنها الرئيس ترمب من قبل بإلغائه للاتفاق الأسوأ في التاريخ - كما هو تعبيره الأثير والصادق - بين إدارة أوباما والنظام الإيراني، وبدأت مرحلتها الأولى في مطلع أغسطس (آب) الماضي، وهذه هي الثانية، وهي عقوباتٌ ستقوم بخنق تدريجي، ولكن فعّال للنظام الإيراني وكافة أجنحته داخلياً وخارجياً، كما أنها عقوباتٌ تخدم مصالح أميركا ومصالح العالم، وتواجه أعتى الأنظمة المعاصرة في نشر التطرف والإرهاب والتخريب والدمار.
في الوقت ذاته، يتزامن ذلك مع نموذجٍ مبهرٍ للعالم بأسره تبنيه السعودية الجديدة بقيادة ولي العهد السعودي، ينوّع الاقتصاد بشكلٍ حقيقي، ويجدد هوية البلاد ووجهتها، ويطوّر الوطن نحو آفاقٍ مستقبلية وتحدياتٍ آتية، ولا يحد طموحه إلا عنان السماء، ورؤيته منشورة ومشاريعها المساندة معلنة ومتابعة إنجازاتها رهنٌ بالأرقام والأخبار اليومية، مع مرونة هائلة وتجدد مستمرٍ يضمن الاستمرار في تحقيق الوعود وبناء المنجزات.
من المهم استحضار هذين النموذجين المتناقضين للنظر في تعامل بعض الدول الأوروبية وغالب الإعلام اليساري الليبرالي الغربي المعادي بطبيعته لترمب، والهستيريا كما عبر وزير الخارجية السعودي التي تعاملت بها مع قضية خاشقجي، فالسعودية تعاملت بجدية مع هذه القضية، وسجنت المتورطين فيها وأحالتهم للنيابة العامة، وفق أعلى المعايير العدلية، وأعلنت أنها ستعاقبهم وفق الأنظمة والقوانين، وستعلن النتائج للعالم، كيف يمكن مقارنتها بسياسة ثابتة ومنهجٍ راسخٍ لقتل الملايين، تتبناه إيران علناً، والقتلى في هذا العام والأعوام القليلة الماضية بمئات الآلاف في العراق وسوريا واليمن!
الآيديولوجيا الإيرانية تتبنّى كل أنواع «الهويات القاتلة» كما عبّر عنها أمين معلوف وغيره، من طائفية وأصولية ووحشية وإرهاب، بمنظومة فكرية وسياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، كما بقراراتٍ وسياسياتٍ واستراتيجياتٍ متواصلة على مدى أربعين عاماً، قتلاها بالملايين من الشعب الإيراني والشعوب العربية التي لعبت فيها أذرع النظام الإيراني، وأسست لأن الوطن فكرة وليس أرضاً، وهو توسعي لا يعترف بالحدود ولا الأوطان، ولا يعرف بالقوانين الدولية ولا سيادة الدول، ويفاخر رموزه بأنه يحتل أربع عواصم عربية.
وبالمقابل، فالنموذج السعودي هو الداعم الأكبر للاستقرار في المنطقة، وهو الحامي الأقوى للقوانين الدولية واحترام سياسة الدول ورفض التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول، والسعودية الجديدة استخدمت كل قوتها المعنوية والمادية لدعم هذه القوانين الدولية وحماية مصالحها ومصالح الدول والشعوب العربية، وحماية مصالح العالم.
ليس هذا فحسب، بل السعودية الجديدة وقفت في وجه العالم ووجه الإدارة السابقة في أميركا - إدارة أوباما - ضد الاتفاق النووي المشين مع إيران، وهو الاتفاق الذي كان يعزز الأزمة ولا يحلها، كما وقفت من قبل في وجه «الربيع الأصولي» في الدول العربية الذي أعاد الدول التي اجتاحها القهقرى قروناً.
المؤدلجون من يساريين وقوميين وأصوليين يصعب عليهم جداً التراجع عن مواقفهم أو مراجعتها أو حتى قبول نقدها، ولهذا هم محكومون بالتصلب والتناقض، ويكفي تتبع تعاملهم مع أزمات المنطقة في هذه الفترة الوجيزة، حيث يضخمون ما لا يريدون ويحجمون ما يريدون، وإلا فمن يقارن قتل نظام الأسد الموالي لإيران لمئات الآلاف بالغازات السامة، وكافة القوات المسلحة من برية وبحرية وجوية لشعبه بدعمٍ إيراني كاملٍ وعملي على الأرض، بحادثة غامضة لم تتكشف أبعادها بعد!
معنى الوطن عند هؤلاء جميعاً مجرد «آيديولوجيا» وليس دولة وطنية حديثة، لها حدودها وسيادتها واستقلال قرارها، والآيديولوجيا رحمٌ بين أبنائها، وهي قادرة على تغييب العقل والمنطق والواقع، ولطالما تغنّى رموز اليسار بالخميني «الثائر الملتحي» الذي يشبه غيفارا وكاسترو، ولكن بـ«عمامة»، وعجزوا عن تجاوز تلك اللحظة على الرغم من كل الجرائم والعبث والتخريب الممتد على مدى أربعة عقودٍ، منذ لحظة انحياز المفكر الفرنسي ميشيل فوكو للخميني إلى اليوم مروراً بكل ترهات اليسار العربي.
النموذج الجديد الذي يبنيه ولي العهد السعودي في أحد جوانبه هو نموذجٌ يقدم تفسيراً جديداً للوطن، لا بوصفه دولة وطنية حديثة فحسب، فذلك ما درجت عليه الدولة السعودية منذ إعلانها في ثلاثينات القرن الماضي، بل بوصفه يعني المستقبل، وهذا التفسير الفريد يوضح التوجه والرؤية والإرادة، فالوطن هو أبناؤه وشبابه وأجياله القادمة، هو أبناؤه الذين يجهدون في الحاضر، وشبابه العامل بجدٍ واجتهادٍ وحماسةٍ وإنجازٍ، ورجاله الدؤوبون على التطلع والطموح، وأجياله القادمة التي يجب إعدادها وتهيئة الظروف لها لتحمل الراية وتواصل المسيرة حين يأتي دورها.
ولكن هل هذا يعني التنكر للماضي أو التقليل من شأنه؟ أبداً، فمن يتأمل رؤية ولي العهد السعودي يجد الماضي أساساً راسخاً فيها، كماضٍ عريقٍ ومنجزاتٍ عظامٍ وآباء مؤسسين من القادة والشعب على حدٍ سواء، وإرثٍ حضاري وتنوعٍ ثقافي واجتماعيٍ، ورؤية للتسامح والتعايش ونشر السلام والأمان للمنطقة والعالم، وتجاوز أي انحرافاتٍ أو أخطاءٍ، وإن استمرت عقوداً بقرارات شجاعة ورؤية ثاقبة.
ولي العهد السعودي يمثل لشعبه المستقبل، وشعبه الذي يشكل شبابه أكثر من سبعين في المائة يسيرون خلفه، شباباً وشيباً، لا نفاقاً ولا مجاملة، بل لأنهم يدركون أن المؤسسين الطموحين للدول وتطويرها هم الذين يبنون ويحلمون ويعملون وينجزون، وليست ما ورثوا فحسب، فالوطن إرثٌ برسم التذكّر والتعلّم والتمجيد بالتأكيد، ولكنه أكثر من هذا مستقبلٌ برسم البناء والتشييد.
المقارنة مفيدة في أحيانٍ كثيرة لما تكشفه وتمنحه للعقل من مساحة للتفكر والتأمل، وهي واضحة النتائج في سياق المقارنة بين النموذجين المعروضين أعلاه، كما أنها تفضح التحيزات المؤدلجة وتعزز المواقف العاقلة والواقعية المتزنة.
أخيراً، وقبل مائة عامٍ من اليوم، وفي يناير (كانون الثاني) 1919 كتب ماكس فيبر قائلاً إن الوطن «ليس أرض الآباء، بل هو أرض الأبناء».
كاتب سعودي مهتم بالشّؤون السّياسيّة والثّقافيّة، وباحث في الحركات والتّيارات الإسلاميّة