Skip to main content

المأزق الأميركي من شرق الفرات إلى الخليج

قوات امريكية
AvaToday caption
يركز المطبخ السياسي الأميركي، في الكونغرس وفي مراكز البحوث الموصولة تقليديا بالبيت الأبيض، على نفوذ إيران المتزايد في العراق
posted onOctober 23, 2019
nocomment

عدلي صادق

بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من شرق الفرات، انفتحت في أروقة السياسة الأميركية الأبواب على مصاريعها، لمراجعة مجمل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ونشوء إجماع داخل الكونغرس بأن هذه السياسة كانت هشة وغير مدروسة وتضر بالمصالح الأميركية.

ولا حاجة إلى القول إن انحراف السياسة الأميركية، وإضرارها بمصالح الولايات المتحدة نفسها، والخفة المسيئة للمكانة الأدبية للدولة العظمى، لم تكن كلها من صنع الرئيس ترامب. فهذا الأخير، جاء بخاتمة الحماقة، وازداد الأمر سوءا، بالطبع، بعد أن حل في البيت الأبيض!

فمن جانب، كان الانسحاب الأميركي من شرقي الفرات، قد ترك قوات “قسد” لمصيرها في مواجهة الأتراك، ما اضطر هؤلاء إلى قبول فكرة التفاهم مع الجيش السوري. ودفع هذا القرار أوساط الكونغرس إلى استذكار حقيقة أن مئة ألف من الضباط والجنود الكورد والسوريين المعارضين، الذين سددت الإدارة الأميركية السابقة كلفة تدريبهم من أموال دافعي الضرائب الأميركيين؛ سيتحولون إلى جزء من الجيش النظامي السوري.

وهذا الذي جعل ترامب، في مكالمته مع رجب طيب أردوغان يخرج عن أطواره، وذكّر الكونغرس بضرورة العودة إلى فحص الأوضاع في العراق، الذي انعقد فيه الموقف السياسي الحاسم، للميليشيات الموالية لإيران، وقد باتت جزءا من الدولة التي تلقت من الولايات المتحدة منذ أكتوبر 2018 دعما وصل إلى 5.3 مليار دولار.

أمام هذا الواقع سقطت أجوبة أميركية قديمة ونهضت أسئلة جديدة. فما الذي سيعود بالفائدة على واشنطن وعلى السياسة الأميركية، إن لم تكن هناك قوات أميركية موجودة على الأرض في سوريا؟ بل ما الذي يضمن عدم استفادة إيران من الدعم الأميركي لبلد استطاعت الميليشيات الموالية لها السيطرة عليه؟

فمن خلال المساحة الصغيرة من الأرض التي رابطت فيها القوات الأميركية في محافظة الرقة، أحس صانعو السياسة الأميركية أنهم نجحوا في قطع طريق الإيرانيين إلى البحر المتوسط. وربما كان الأميركيون واهمين في إحساسهم ذاك، مثلما كانوا واهمين وينامون على وسادة الاطمئنان إلى التحالف الإستراتيجي مع أنقرة.

ففي أعقاب الانسحاب الأميركي من شمال سوريا، عبّر الجميع تقريبا في الكونغرس عن رغبته في استمرار التواجد العسكري الأميركي، على أن يكون هذا التواجد نوعيا وضئيلا في حجمه قدر الإمكان، وحاسما في تأثيره الإستراتيجي، لتحقيق الأهداف الأميركية.

وعندما لم يأخذ ترامب هذه الحاجة في الحسبان، انزعج الإسرائيليون من موقفه واضطروا إلى معارضة العملية العسكرية التركية!

في هذه المعمعة، فقد ترامب ما تبقى من صوابه، لاسيما عندما أدت التطورات إلى اضطرار القوات الكردية المدربة أميركيا، للتوافق مع الجيش السوري على التنسيق الميداني، والرهان على الدور الروسي الذي يشترط عليهم ما يناسب موسكو وطهران، ولا يناسب الأميركيين.

على هذا الصعيد وصل الكونغرس إلى قناعة بأن الرئيس الذي يحدد مسار السياسة الخارجية الأميركية، قد أضر بالمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة.

ولم يتبق للكونغرس سوى اللعب بما لديه من صلاحيات، في الاتجاه المعاكس لسياسة ترامب. وتنحصر صلاحيات الكونغرس في الدفاع عن مصلحة دافعي الضرائب وفي فرض العقوبات وإسماع الرأي العام الأميركي رأيه في السياق الجاري.

هكذا، سُمع الخطاب المشترك بين منتسبي الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تأسيا على ما آلت إليه أوضاع “الحلفاء الكورد”.

وشملت مشاعر القلق الأميركية على مصير الكورد، إقليم كردستان العراق، الذي يأمل الأميركيون أن يظل منطقة ضامنة لمصالحهم ولاستقرار يناسب السياسة الأميركية. ولم يتأخر رد أكراد العراق على هذا التوجه الأميركي في الكونغرس، فأدلى رئيس إقليم كوردستان العراق نيجيرفان بارزاني بتصريح دعا فيه الكورد إلى الحذر والتأني في ردود أفعالهم على الانسحاب الأميركي من شمال شرق الفرات.

قائلا إن ذلك الانسحاب “لم يكن مرغوبا فيه”، لكن إقليم كردستان العراق “لا يزال يقدر الدور التاريخي للولايات المتحدة في حماية الشعب الكوردي”.

 وقد عبر بارزاني بهذا التصريح عن توجهات الزعماء الكورد العراقيين الذين لم يدينوا العملية العسكرية التركية ضد أشقائهم، بحكم أن كردستان العراق تعتمد على خطوط أنابيب تركية لتصدير النفط وترتبط مع تركيا بعلاقات سياسية وثقافية وثقى. وبدت توجهات الكونغرس حيال كورد العراق كمن تحرص على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعلى ممارسته الضغوط والتهيؤ لمواجهة أي محاولة من ترامب لبيع كورد العراق مثلما باع كورد سوريا.

 فهو في تلك الحال، سيدفع أكراد العراق إلى التحالف مع إيران، مثلما تحالف أشقاؤهم السوريون مع النظام تحت مظلة روسية. فإن حدث هذا في حسابات الكونغرس، سوف تستكمل طهران خارطة نفوذها في العراق، ويستكمل الروس الاستحواذ على أسباب راحتهم في الخليج، ويوسعون تعاونهم مع دوله لينتقل هذا التعاون من الاقتصادي والبترولي إلى العسكري الإستراتيجي.

ففي هذا السياق المفترض الذي يحاول الكونغرس أن يتحاشاه، سيكون الأميركيون عاجزين عن تقديم أي مساعدة إستراتيجية حقيقية لأقطار الخليج العربية.

من هنا يركز المطبخ السياسي الأميركي، في الكونغرس وفي مراكز البحوث الموصولة تقليديا بالبيت الأبيض، على نفوذ إيران المتزايد في العراق، ويرونه علامة فشل السياسة الأميركية في المشرق العربي، ما يستوجب تسليط الضوء عليه. فهناك “منظمة بدر” و”الحشد الشعبي” وغيرهما من المجموعات الوازنة، التي تمثل كل منها نموذج الحزب/الميليشيا المندمج في الدولة بولائه الإيراني المتقدم على أي ولاء، والخارج عن سيطرتها، وهو يماثل أو يحتذي تجربة “حزب الله” في لبنان.

ويتساءل باحث من معهد واشنطن “ماذا سيكون شعور الأميركيين إذا علموا أن أموال دافعي الضرائب التي تدفعها الولايات المتحدة للحكومة العراقية، تتحول إلى أيدي ميليشيات عراقية خاضعة للسيطرة الإيرانية؟ ويستطرد باحث آخر: إن الكثير من العناصر الموالية لإيران، داخل هياكل الدولة العراقية تشغل مناصب مهمة تمنحها صلاحيات تؤثر في قرارات التمويل”.

ويتساءل أميركيون آخرون “كيف يمكننا تربيع الدوائر، بعدما حدث خلال العامين الماضيين، دمج الميليشيات الإيرانية بشكل قانوني داخل الجيش العراقي، دون أي بادرة اعتدال سياسي من قبل المندمجين، مثلما افترضت الإدارات الأميركية أن يحدث؟ و”ماذا لو أصبح زعيم بدر هو رئيس الوزراء العراقي القادم؟ وكيف يصبح من المجدي فرض العقوبات عليه بينما الكونغرس نفسه مستعد لفرض عقوبات على الحليف الإستراتيجي أردوغان؟

في هذا الخضم، ترتبك السياسة الأميركية وتستشعر الحرج والعجز، بينما لا يزال الرئيس ترامب يمارس هواية الاشتراط والتعيير للعرب، بكلام جارح، كلما تحدث عن “حماية” مفترضة وكرر المطالبة أو الحديث عن أكلافها وأثمانها، بينما هو لا يفعل في الحقيقة، سوى العكس، إذ يفتح الثغرات ويتمسك بسياسات تعزز دور الروس، وتتيح للإيرانيين هوامش الحركة والنفوذ في مناطق رهاناته الكبرى، ثم يباهي بأنه يبيع “الحماية” ويربح!