بات وصف المظاهرات الواسعة التي شهدها العراق ضد الفساد والبطالة بالمؤامرة توجها رسميا لدى إيران والأحزاب الشيعية الموالية لها في العراق بعد ما كان في البداية مجرد تصريحات معزولة.
ولم تفد محاولات الاحتواء التي سعت إليها حكومة عادل عبدالمهدي، والكتل البرلمانية المختلفة، في ترويض الانتفاضة الشعبية، ما دفع إلى الحديث عن مؤامرة خارجية لإسقاط النظام الذي تسيطر عليه الأحزاب الشيعية واتهام إسرائيل والولايات المتحدة بالوقوف وراءها في مسعى للتشكيك بمشروعيتها وتبرير العنف الذي مارسته القوات الحكومية والميليشيات ضد المحتجين.
بالتوازي، لا تستبعد أوساط سياسية عراقية مطلعة أن تلجأ الأطراف السياسية إلى التضحية برئيس الوزراء عادل عبدالمهدي مقابل امتصاص الغضب الشعبي، وأن عبدالمهدي نفسه موافق على خروج مشرف له وللأطراف المختلفة.
واعتبر المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أن "الأعداء" يحاولون دق إسفين بين طهران وبغداد، وذلك في تغريدة الاثنين بعد الاضطرابات الدامية في العراق.
ونقل حساب خامنئي الرسمي على تويتر قوله إن "إيران والعراق شعبان ترتبط (…) قلوبهما وأرواحهما (…) وسوف يزداد هذا الارتباط قوة يوما بعد يوم"، مضيفا أن “الأعداء يسعون للتفرقة بينهما، لكنهم عجزوا ولن يكون لمؤامرتهم أثر".
وقال مستشار السياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حسين أمير عبداللهيان "الأيادي الأجنبية الخبيثة… تحاول اليوم وبأسلوب آخر” زرع “عدم الاستقرار في العراق".
ورأى المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي الاثنين أن هناك "مضمري سوء يريدون تخريب أي انفراج بيننا وبين دول الجوار"، مضيفا في مؤتمر صحافي نقله التلفزيون الرسمي أن إيران "تتأثر وتشعر بالقلق من أي توتر أو اضطرابات في دول الجوار".
من جانبه، أعلن رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض الاثنين أن فصائله جاهزة للتدخل لمنع أي “انقلاب أو تمرد” في العراق، في حال طلبت الحكومة ذلك.
وقال الفياض خلال مؤتمر صحافي في بغداد إن “هنالك من أراد التآمر على استقرار العراق ووحدته”، مؤكدا أن الحشد الشعبي، الذي يعمل في إطار رسمي، يريد “إسقاط الفساد وليس إسقاط النظام”.
وأكد “نعرف من يقف وراء التظاهرات، ومخطط إسقاط النظام فشل”، مشددا على أنه “سيكون هناك قصاص لمن أراد السوء بالعراق”.
لكن مراقبين عراقيين يقولون إن اتهام جهات أجنبية بتحريك مؤامرة لا يخفي أن الأطراف المرتبطة بإيران متخوفة من تطورات قد تقود فعلا إلى إسقاط منظومة 2003، وهذا ما يفسر الرغبة في التضحية بعادل عبدالمهدي.
وتعهد رئيس الوزراء العراقي لأطراف سياسية مؤثرة، بتقديم استقالته من منصبه، في حال حصل على فرصة لإدارة أزمة الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، منذ الأسبوع الماضي.
وأبلغ مسؤول رفيع في مكتب رئيس البرلمان العراقي بأن عبدالمهدي رد على مقترح ينص على تخليه عن السلطة، عرض خلال اجتماعات سياسية على هامش أزمة الاحتجاجات، قائلا “أدرس هذا فعلا”.
وقال المسؤول إن “عبدالمهدي تحدث بوضوح عن إمكانية استقالته، لكنه طلب مهلة وصلاحيات”، مضيفا أن “عبدالمهدي يحاول الاستفادة من الظروف الضاغطة التي خلقتها حركة الاحتجاج، للحصول على صلاحيات أكبر من الكتل السياسية”.
وتابع أن “رئيس الوزراء يهمه الآن أن يثبت مقدرته على إدارة الأزمة، والخروج منها، ثم تسليم السلطة، حتى قبل انتهاء ولايته في 2022”.
ويدرك رئيس الوزراء العراقي، أن الأحزاب السياسية لن تتردد في التضحية به، إذا كان هذا كافيا لإقناع المتظاهرين، سعيا لحماية مصالحها، قبل كل شيء.
لكن عبدالمهدي، يدفع ضريبة كبيرة جدا، وهو يحاول احتواء حركة احتجاج اندلعت ضد الفساد وسوء الإدارة وشيوع البطالة، لتتطور لاحقا نحو المطالبة بإطاحة النظام السياسي كله.
وعبدالمهدي، ليس هو رئيس الوزراء العراقي الأول الذي يتعامل مع احتجاجات واسعة بالعنف، حيث أقرت القوات العراقية للمرة الأولى الاثنين بـ“استخدام مفرط” للقوة، إذ سبق للمالكي أن قمع حركة مشابهة في 2011، كذلك فعل العبادي في 2018، لكنهما لم يتورطا في هذا المستوى من القتل، وهذا العدد من الضحايا.
وظهر عبدالمهدي الأحد، متوسطا وزراءه، وهو يدعو المتظاهرين إلى الانسحاب من الشوارع، بعد زوال مبررات احتجاجهم على حد زعمه، إذ تعهد بأنه سيلبي مطالبهم. وتحدث عن تحسن الكهرباء في عهده، وتطور الاقتصاد، ملمحا إلى جحود المحتجين لهذه الجهود.
لكن متظاهرين في بغداد، سخروا مساء من حديث عبدالمهدي، وقالوا إنه مستسلم لرغبة إيرانية علنية في الحفاظ على النظام السياسي العراقي، مؤكدين أن مطالبهم لا تتعلق بالجوع والعمل، كما تصور الحكومة، وإنما بضرورة تغيير النظام نفسه، حيث لم يعد قابلا للإصلاح.
وقالت مصادر طبية وأخرى من الشرطة العراقية إن ما لا يقل عن 15 شخصا قُتلوا في اشتباكات بين قوات الأمن ومحتجين مناهضين للحكومة في بغداد الليلة قبل الماضية.
واعتبر مراقبون أن عبدالمهدي لم تعد لديه فرصة التراجع عن السلوك القمعي الذي يبديه إزاء التظاهرات، لكنه في النهاية يحقق رغبة الكتل السياسية الموالية لإيران، ما يمنحه فرصة البقاء في منصبه، ولو بشكل مؤقت.
وتمسكت الحكومة العراقية حتى يوم الاثنين، بقرار تعطيل شبكة الإنترنت في عموم البلاد، ما كبد رجال أعمال ومستثمرين وشركات خاصة وعامة خسائر مالية كبيرة.
وقال مختصون في مجال الاقتصاد، إن العراق يتكبد نحو مليون دولار كل يوم بسبب توقف خدمة الإنترنت.
وأجمع مراقبون عراقيون على أن استقالة عبدالمهدي لم تعد هدفا بالنسبة للمحتجين ولن تهدئ الشارع الغاضب كما أنها ستؤدي إلى فراغ سياسي، سيكون سده من خلال اتفاق أميركي ــ إيراني صعبا في هذه المرحلة الشائكة عالميا.
وأشار مراقب سياسي عراقي إلى أن الأحزاب الموالية لإيران، التي تتخوف من نتائج هذه الانتفاضة، تسعى لإظهار دعم عبدالمهدي وإبعاده عن الشعور بالضعف في مواجهة أي رد فعل عالمي بسبب الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمنية.
ولم يستبعد المراقبون أن يلجأ عبدالمهدي إلى التلويح بالاستقالة في لعبة مكشوفة يرغب من خلالها أن يكون الرجل القوي الذي دافع عن الهيمنة الإيرانية في مواجهة مطالب المحتجين المنددة بتلك الهيمنة.
كما أنه يحاول أن يظهر حزما في الدفاع عن النظام السياسي الذي أقامته الولايات المتحدة تقربا منها ليبدو كما لو أنه يدافع عن مصالحها.