خيرالله خيرالله
هذه أكثر إدارة أميركية تعرف إيران عن كثب وبالتفاصيل المملّة. تعرف كلّ شيء عما فعلته إيران منذ سقوط الشاه في العام 1979. تعرف من احتجز الدبلوماسيين الأميركيين في طهران في تشرين الثاني-نوفمبر من تلك السنة والأسباب التي أدت إلى الاحتفاظ بهم رهائن طوال 444 يوما.
تعرف كلّ شيء عن نشاط إيران في لبنان، بما في ذلك تفجير السفارة الأميركية في بيروت في منطقة عين المريسة في نيسان-أبريل 1983، ليس بعيدا عن الجامعة الأميركية. قُتل معظم رؤساء محطات وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.إي) في المنطقة في ذلك الانفجار.
كان على رأس هؤلاء بوب ايمز احد كبار المسؤولين في الوكالة الذي سبق له أن حذّر المسؤولين في “الجمهورية الإسلامية” من احتمال حصول هجوم عراقي على إيران!
يبقى تفجير مقرّ المارينز في بيروت في الثالث والعشرين من تشرين الأوّل-أكتوبر 1983 العملية الإرهابية الأكبر التي نفذتها إيران عبر أدواتها، ذلك أن ما يزيد على 250 جنديا أميركيا قُتلوا نتيجة ذلك الانفجار. الأهمّ من ذلك كلّه، أن إيران استطاعت طرد الولايات المتحدة من لبنان في نهاية المطاف.
لكنّ المخيف في عملية تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة وقتل كل هذا العدد من ضباط الـ”سي.آي.إي”، في عزّ الحرب الباردة، أنّه كان هناك نوع من التنسيق في العمق بين الأجهزة الإيرانية من جهة والاستخبارات السوفياتية “كي.جي.بي” من جهة أخرى.
ما يجعل الشك في وجود مثل هذا التنسيق في محلّه أن الأجهزة الإيرانية لم تكن قادرة على الحصول على معلومات دقيقة عن اجتماع لمسؤولي محطات الـ”سي.آي.إي” في دول الشرق الأوسط في تلك الساعة بالذات لولا الـ”كي.جي.بي” ومراقبتها للتحركات الأميركية في المنطقة.
لدى العودة إلى الخطب التي ألقاها الرئيس دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو في العامين الماضيين يتبيّن أن لا وجود لتفصيل صغير متعلّق بإيران لم يتناوله الرجلان، بما في ذلك الدور الإيراني في العراق وسوريا ونشاط “حزب الله” داخل لبنان وخارجه.
من الواضح أنّ أميركا تعرف الكثير عن إيران وأدواتها في المنطقة. لكنّ السؤال الذي يَطرح نفسه في ضوء ما شهدته الأيّام الأخيرة من تطورات توجّت بإسقاط صاروخ إيراني طائرة تجسّس أميركية من النوع المتطوّر، بل الأكثر تطورا هو الآتي: هل لدى إدارة ترامب القدرة على أن تكون مختلفة عن كلّ الإدارات التي سبقتها في السنوات الأربعين الماضية، بدءا بإدارة جيمي كارتر وانتهاء بإدارة باراك أوباما؟
لدى التمعّن في التقارير التي نُشرت عن تراجع ترامب في اللحظة الأخيرة عن توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، يتبيّن بكل بساطة أن لا رغبة لدى الرئيس الأميركي في أي مواجهة عسكرية مع إيران. خالف كل التوصيات التي وُجّهت إليه وقرر في اللحظة الأخيرة رفع إصبعه عن الزناد، وذلك على الرغم من أن كلّ شيء كان معدّا للضربة.
فعل مثل باراك أوباما في آب-أغسطس من العام 2013 عندما تراجع في اللحظة الأخيرة عن توجيه ضربة إلى النظام السوري الذي ثبت أنه استخدم السلاح الكيميائي في حربه على السوريين.
ظهر مع الوقت أن أوباما قرر فجأة تجاهل “الخط الأحمر” الذي رسمه لبشّار الأسد كي لا يزعج إيران التي كانت في مفاوضات سرّية مع الولايات المتحدة في شأن ملفّها النووي.
ما الذي ستكشفه الأسابيع المقبلة عن الأسباب الحقيقية التي حملت ترامب على التراجع عن ضرب إيران؟ هل صحيح أنّه اتكل على حدسه ورفض الأخذ بتوصيات مستشاريه العسكريين والسياسيين؟
لا جواب بعد عن هذا السؤال، لكن الثابت أن الرئيس الأميركي يفكّر أوّل ما يفكّر فيه هذه الأيّام هو في كيفية تفادي أي عمل عسكري من أيّ نوع يمكن أن يحولَ دون حصوله على ولاية ثانية.
بكلام أوضح، يريد ترامب تفادي غرق حملته الانتخابية التي أطلقها قبل أيّام من فلوريدا في الوحول الإيرانية، خصوصا أن ليس ما يضمن بقاء المواجهة العسكرية مع “الجمهورية الإسلامية” محدودة.
هذا ما تدركه إيران. لذلك ستسعى إلى ابتزاز ترامب إلى أبعد حدود عن طريق التصعيد المستمرّ ومفاجآت من نوع إسقاط طائرة التجسس الأميركية التي تمتلك قدرات هائلة على جمع المعلومات، فضلا عن وسائل تشويش على الصواريخ التي توجه إليها.
أثبتت إيران، عبر إسقاطها الطائرة، أنّها تمتلك صواريخ أرض-جو متطورة لم تكن إدارة ترامب على علم بها. من وراء حصولها على مثل هذه الصواريخ؟ هل يمكن الحديث هنا عن تعاون روسي- إيراني في هذا الحقل؟
أمكن إذا، تفادي المواجهة العسكرية. لكنّ إيران تبدو مصمّمة على التصعيد نظرا إلى أنها تدرك نقطة الضعف لدى ترامب. نقطة الضعف هذه هي الانتخابات الرئاسية المتوقعة في تشرين الثاني- نوفمبر 2020. نقطة الضعف هذه تجعل ترامب مترددا على غرار ما كان عليه باراك أوباما الذي كان همّه محصورا في التوصل إلى اتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.
لدى أميركا شروطها للتفاوض مع إيران، ولدى إيران شروطها للتفاوض مع أميركا. الشرط الإيراني الأوّل هو تراجع ترامب عن العقوبات وإعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني المُوقّع صيف العام 2015. من سيتراجع أوّلا في لعبة بدأت معالمها تتّضح أكثر فأكثر؟
تعتبر إيران أن العقوبات الأميركية حرب حقيقية تتعرّض لها. كشفت هذه العقوبات كم الاقتصاد الإيراني هشّ ومدى الفشل في الخروج من لعبة الابتزاز التي مارستها “الجمهورية الإسلامية” منذ لحظة قيامها. لكنّ ترامب اكتشف أيضا أنّه خاضع للابتزاز وأنّ العقوبات لا يمكن أن تستمرّ من دون مواجهة عسكرية في مرحلة معيّنة.
استطاع الرئيس الأميركي تفادي هذه المواجهة، أقلّه إلى الآن. ما الذي سيفعله عندما تلجأ إيران إلى مزيد من التصعيد في المستقبل القريب؟ الأكيد أنّه سيكون في حيرة من أمره إذ سيتوجب عليه الرد كي يثبت أن أميركا قويّة بالفعل، وأنّه ليس رئيسا مترددا مثلما كانت عليه حال باراك أوباما.
عاجلا أم آجلا، سيكتشف دونالد ترامب أن عليه اتخاذ قرار في ما يتعلّق بإيران التي ترفض الركوع أمام العقوبات الأميركية، بل قررت الردّ عليها بالتصعيد. تستند إيران في لعبتها إلى خبرة طويلة في التعاطي مع الرؤساء الأميركيين في السنوات الأربعين الماضية. هل تفشل مع دونالد ترامب، أم يتبيّن أنّه ليس مختلفا كثيرا عن أسلافه بعد اكتشاف نقطة ضعفه ومدى قدرة إيران على استغلال هذه النقطة في سياق سياسة الابتزاز التي تتقنها، والتي جعلت منها خبيرة في هذا المجال…على حساب تجويع الشعب الإيراني طبعا!
إعلامي لبناني