عبدالأمير المجر
بعد انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا العام 1917، واقرار النظام الشيوعي فيها، في اعقاب مؤتمر الاممية الثالثة في موسكو مطلع العام 1919، وجد الغرب الرأسمالي نفسه، وقتذاك، امام تحد غير مسبوق، اذ حضر المؤتمر نحو 52 مندوبا، واحزاب عدة من مختلف دول العالم بما فيها فرع الحزب الاشتراكي الفارسي، الذي بات حزبا شيوعيا وسيعرف لاحقا بـ"حزب تودة".
كانت ايران القاجارية في تلك المرحلة، تعصف بها ازمات متلاحقة واخرها الثورة الدستورية (المشروطة) التي كادت تسقط النظام في العام 1906 ومهدت لظهور رجل قوي في ايران هو الضابط رضا المازندران، وسيصبح هذا قائدا لقوات القوزاق الخاصة، التي تعد يد النظام الضاربة، اذ اخمد اكثر من حركة مسلحة، لاسيما حركتي اسماعيل اغا (سمكو) في كردستان، وخياباني في اذربيجان واعاد سلطة الدولة اليها.
بينما كان احمد شاه، اخر ملوك القاجاريين، يعيش حياة لهو ومجون، وكثير السفر الى اوروبا، فضلا على كونه شابا قليل الخبرة في ادارة شؤون دولة كبيرة مثل ايران (بلاد فارس وقتذاك).
في تلك الظروف الملتبسة، اتفق رضا خان، وهكذا باتت تسميته بعد ان اصبح قائدا عسكريا كبيرا، مع الصحفي والسياسي المعروف ضياء الدين طباطبائي، المقرب من البريطانيين، على الاطاحة بحكومة فتح الله خان اكبر القاجارية، بانقلاب عسكري، وحصل هذا في 21 شباط/فبراير من العام 1921 والمعروف تاريخيا بـ"انقلاب حوت"، شبيه بما قام به بكر صدقي في العراق لاحقا، أي الاطاحة بالحكومة والابقاء على العرش.
الانقلاب دبرته بريطانيا ووقفت وراءه، وكان الهدف منه التمهيد لتغيير واسع في ايران يجعل منها اكثر قدرة على مواجهة التحدي الشيوعي ووقف تمدده الى الشرق، بعد ان الهبت ثورة اكتوبر حماسة الشعوب.
نجح الانقلاب بسهولة واصبح ضياء الدين طباطبائي رئيسا للوزراء، وفقا للاتفاق بين الرجلين، فيما اصبح رضا خان وزيرا للدفاع، أي انه امسك بالحبل الذي سيوصله الى العرش.
بعد اقل من ثلاثة اشهر ونصف انفرط عقد العلاقة بين الرجلين، لان هدف رضا خان كان ابعد بكثير من هدف طباطبائي، وبذلك ابعد الرجل عن رئاسة الوزراء مطلع الشهر السادس من ذاك العام، وعين بدلا عنه "قوام السلطنة"، وهكذا صار رضا خان يعين رؤساء الوزراء ويمهد طريقه الى العرش الذي وصله نهاية الشهر العاشر من العام 1925 لينتهي بذلك حكم الاسرة القاجارية ويبدأ حكم الاسرة البهلوية.
بعد الانتصارات الالمانية بداية الحرب العالمية الثانية، تناغم رضا شاه مع هتلر، كونه يرى نفسه آريا قريبا من الالمان! فاتفق الحلفاء الغرماء، ونقصد الروس والبريطانيين على ازاحته، بعد تجاهله تحذيراتهم، وقرروا اجتياح ايران في العام 1941 من الشمال والجنوب، والتقوا عند العاصمة طهران، ونصبوا ولده محمد بدلا منه.
شيء جدير بالذكر هنا، هو ان الجمهوريتين الاشتراكيتين في كردستان واذربيجان، اللتين اقيمتا شمال غربي ايران، في ظل الوجود السوفيتي في الشمال الايراني العام 1946 اطيح بهما بطريقة دموية بعد انسحاب السوفييت، لان ذلك حصل خلافا لما اتفق بشأنه في مؤتمر القرم في العام 1945 بين ستالين وروزفلت وتشرشل، حين تقاسموا النفوذ في العالم، قبيل الهجوم الكبير على المانيا النازية.
مطلع الخمسينيات من القرن الماضي تحالف حزب الجبهة الوطنية، الفائز في الانتخابات بقيادة محمد مصدق، مع اليساريين وبعض القوى الوطنية، فحصلت ثورة مدنية، انتهت بتأميم النفط الايراني، وهروب الشاه اثر خلافه مع مصدق بداية اب/أغسطس من العام 1953 فتدخلت اميركا بقوة، ووقفت وراء انقلاب الجنرال زاهدي في نهاية الشهر نفسه، اطاح حكومة مصدق، واعاد الشاه محمد رضا الى العرش وابقى ايران تحت الهيمنة الغربية، حتى العام 1979.
الموقع الجيوسياسي لايران وحجمها، يكتسبان اهمية استثنائية للقوى الكبرى، كونها في قلب المنطقة الاغنى في العالم والاكثر حساسية، ونقصد الشرق الاوسط. الاّ ان تفردها الايديولوجي (لا شرقية لا غربية) بعد ثورة العام 1979 وتطلعها لان تكون اكثر تأثيرا في المنطقة، وضعاها في حسابات مختلفة للجميع، اذ بقدر ما تلتقي معها بعض الدول مثل روسيا والصين لحسابات تكتيكية.
تجد هذه الدول ان مصالحها المتشابكة مع اميركا والغرب، يفرض عليها مواقف مختلفة، حين تصطدم ايران مع اميركا في ملفات حساسة، مثل القضية الفلسطينية، والمواقف من مشاكل بعض دول المنطقة التي لتلك الدول رؤى مشتركة مع واشنطن في حلها.
وقد تفاقم هذا الامر بعد "الربيع العربي" الذي افرز مواقف لم تكن في حسابات ايران، لان مخرجات اللعبة الدولية يجب ان يقررها الكبار بتوافقاتهم.
فالروس وتحقيقا لمصالحهم في سوريا، باتوا ملزمين بضبط المعادلة العسكرية والامنية بين سوريا واسرائيل على المدى البعيد، تمهيدا لحلول قد لا تناسب رؤية الايرانيين. القصف الاسرائيلي على مواقع تراها حكومة نتنياهو تابعه لايران، والصمت الروسي تجاهه يوضح هذه الحقيقة.
وحل الدولتين الذي تدفع باتجاهه الدول الكبرى، تعارضه ايران التي تتحدث عن ازالة اسرائيل، والموقف من دول الخليج العربي، وجدل ايران الطويل مع بعضها لاسيما السعودية، وتحديدا بعد حرب اليمن، جعلت ايران في مواجهة مفتوحة من دون حليف استراتيجي حقيقي.
مأزق ايران اليوم، يتمثل في كيفية صناعة مشتركات حقيقية مع القوى المؤثرة، لترصن موقفها في مواجهة اميركا، بعد ان اخذت المواجهة بعدا ميدانيا حساسا.
لاشك ان الايرانيين يدركون كل هذا، لكن احدا لا يعرف كيف ستكون استراتيجيتهم القادمة في ظل معطيات دولية جديدة تماما، وواقع جيوسياسي، يبدو ان معطياته رسمت له صورة اخرى مختلفة تماما عما كان عليه في القرن الماضي.