لا يُحصى عدد الروايات التي صدرت خلال الثورة السورية التي مضى على اندلاعها ثماني سنوات. بعض الإحصاءات تشير إلى صدور خمسين رواية، لكنّ الثابت أن العام 2014 وحده شهد صدور أربعة عشر رواية كانت بمثابة الانطلاقة الأولى لرواية الثورة السورية.
ويُعدّ أصحابها من المؤسسين الذين رسّخوا معالم جديدة وغير مألوفة في الحركة الروائية السورية المعروفة تاريخياً، ومن روادها على سبيل المثل حنا مينة وهاني الراهب وحيدر حيدر وغادة السمان وخيري الذهبي وسواهم.
وفي العام 2015 بلغ عدد الروايات نحو أربعة وعشرين، ثم راحت تتوالى عناوين جديدة وتبرز أسماء روائيين شباب وبدا واضحاً انتقال بعض الشعراء والصحافيين إلى ميدان الكتابة الروائية استجابة لرغبة لديهم في خوض غمار هذه الثورة التي انقلبت حرباً بعدما تسللت إليها جماعات غريبة عنها، مثل الحركات الأصولية وفي مقدمها داعش، وانضمت إلى رحابها دول مثل إيران وروسيا وتركيا والولايات المتحدة وسواها.
كان من الطبيعي أن تنعكس هذه الثورة – الحرب في مرايا الأدب، شعراً ورواية وقصة قصيرة، مثلها مثل كل حروب التاريخ التي انتجت أدباً يسمى "أدب الحرب"، خصوصاً أن الثورة أو الحرب السورية أمست أشبه بملحمة مأسوية رهيبة ومفتوحة، جرفت معها بلاداً وشعباً وأحدثت رقعة هائلة من خراب ودمار، وأضرمت النيران في الأحياء والمنازل وفي الحقول والبساتين، وهجّرت أعداداً كبيرة من البشر ابتلعت أمواج البحر كثيرين منهم، بينما حل بعضهم في مخيمات، ينامون في الهواء الطلق أو تحت الخيام وصفائح التنك.
وبدا أن معظم الشعراء والروائيين الذي أسهموا في كتابة هذا الأدب السوري الجديد، عانوا هم أنفسهم بؤس التشرد واللجوء والإقامة في المنفى، وراحوا يبحثون عن مدن يعيشون فيها هرباً من العنف المستشري، العنف الرسمي والبعثي، والعنف الأصولي.
ولم يكن مستغرباً أن تصدر الروايات والدواوين في مدن عربية عدة مثل بيروت والشارقة وعمان وبغداد عطفاً على بعض المدن الغربية.
لكنّ بيروت كانت الأكثر انفتاحاً على هذه الروايات الجديدة والأكثر ترحاباً بها نظراً كون بيروت لا تزال مطبعة عربية بامتياز.
أما في سورية فصدرت أعمال قليلة تبعاً لأسباب عدة رقابية وطباعية أو نشرية، وقد تجرأ بعض الكتّاب المقيمين في الداخل على مواجهة الخوف والرقابة السياسية فكتبوا أعمالهم ونشروها في الخارج.
ومثلما شهدت الرواية حالاً من "الفوران" لم يكن متوقعاً، فالشعر شهد رواجاً كبيراً وكتبت خلال الثورة – الحرب قصائد كثيرة يستحيل إحصاؤها وبرز شعراء شباب وجدد من ذوي المواهب العالية.
وتمكن هذا الشعر السوري الجديد من خلق تيار أو مدرسة فريدة، تصب في نهر الشعر العربي الراهن وتتفرع عنه متفردة بنفسها، لغة وأساليب وقضايا.
وقد نشر الكثير من هذا الشعر على صفحات الإنترنت وفي المواقع نظراً إلى صعوبة النشر الشعري في المنفى.
واجهة أدب الحرب
احتلت الرواية إذاً واجهة أدب الحرب، واستطاع الروائيون المخضرمون والجدد والشباب، أن يؤسسوا حركة كان لها أن تنطلق من المخزون الروائي السوري التقليدي وأن تخرج عنه من ثمّ، والحافز هو القضية الطارئة، قضية الثورة أو الحرب وما جرّت من مآسٍ وويلات.
حتى المكان الذي استندت إليه الرواية السورية السابقة ظل هو نفسه لكنه ارتدى هنا حلّة أخرى، دموية أو رمادية، حلّة الدمار والخراب.
وكذلك التاريخ البعيد والقريب، الذي ارتكز إليه الروائيون السابقون لم يغب عن روائيّي اللحظة الراهنة، لكنّ الجرأة بدت أكبر لدى هؤلاء وأعمق، فراحوا يمارسون أفعال الهتك التاريخي والسياسي.
لم تغب مثلاً مجازر حماة عن بعض الروايات، لكنها اكتسبت طابعاً مأسويا وكارثياً.
أما سجون النظام البعثي وكواليسه فتمّ فضحها وتعريتها وهجاء جلاديها وسجانيها، ويكفي أن نتذكر رواية مصطفى خليفة "القوقعة" التي صدرت في العام 2008 أي قبل ثلاث سنوات من اندلاع الثورة وبدت كأنها تمهد للرواية السورية الجديدة لا سيما في جرأة صاحبها الذي عاش تجربة أليمة جداً في سجن البعث.
إذاً بدأت الروايات تتوالى منذ العام 2012 أي العام الثاني للثورة وراحت موضوعاتها تتعدد وكذلك مناخاتها وشخصياتها وتقنياتها، بعضها استعاد التاريخ السوري المعاصر، بوقائعه وأمكنته، معرجاً على فترة حكم البعث.
وبعض آخر غاص مباشرة في جو الثورة، في ما سبقها وما رافقها.
ثم صدرت لاحقاً روايات تتناول مآلات الثورة التي استحالت حرباً متعددة الهويات والعقائد ومتعددة الجبهات، في الداخل أو على الحدود.
وإن نجحت روايات عدة في خوض غمار الفن الروائي والتقنيات السردية والجماليات، انطلاقاً من قضايا الواقع السوري الراهن والمأساة السورية، متحررة من مبدأ رد الفعل إزاء الحرب ومن الاستجابة السريعة لها، فإن روايات عدة وقعت في المباشرة والواقعية المسطحة، فلم تتعمق في قضية الحرب ولا في المآسي البشرية.
وبدت هذه الروايات تحتاج إلى الاختمار والاختبار والتأمل وإدراك أبعاد الحرب الشديدة التناقضات والمربكة، بما طرحت من أسئلة سياسية وتاريخية ووجودية.
ولم تخل ُبعض الروايات من "أمراض" الحرب نفسها أو من آثار الجروح التي أحدثتها في الجسد السوري الممزق، ومنها الطائفية والمذهبية، وحملت روايات نزعة مذهبية مفضوحة عبّرت عن حقد دفين وضغينة كان على الحرب أن تفجرهما.
أما الروائيون فهم ينتمون إلى اجيال عدة، فمنهم المخضرمون من أمثال نبيل سليمان وفواز حداد، والجدد من أمثال خالد خليفة وخليل صويلح وسمر يزبك وروزا ياسين حسن ولينا هويان الحسن وشهلا العجيلي وسواهم، والشباب من أمثال ديمة ونوس وفادي عزام وسومر شحادة وعتاب أحمد شبيب.
مشهد روائي واسع
وإذا كان من الصعب بل من المستحيل استرجاع كل ما صدر من روايات عن الثورة – الحرب السورية فمن الممكن التوقف عند بضعة نماذج تمثل التيارات أو التوجهات التي جسدتها هذه الروايات.
وهذه الروايات – النماذج تحتاج إلى قراءات هادئة من أجل استخلاص الخصائص التي تتميز بها و"غربلتها" وإدراجها في خاناتها السردية وسياقاتها.
لكن هذه الروايات لقيت ترحاباً في الصحف والمجلات والإعلام المرئي – المسموع واستطاع بعضها أن ينافس في "سوق" الجوائز لا سيما جائزة البوكر العربية وأن يفوز مراراً.
من الجيل المخضرم على سبيل المثل برزت روايتا نبيل سليمان "جداريات الشام - نمنوما" و"ليل العالم"، ورواية فواز حداد "السوريون الأعداء".
أما الجيل الجديد فبدا أشد غزارة وشمولية في معالجته المأساة السورية: خالد خليفة أصدر روايتين هما "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" و "الموت عمل شاق"، خليل صويلح نشر روايتين هما "جنة البرابرة" و"اختبار الندم"، سوسن جميل حسن رواية "قميص الليل"، روزا ياسين حسن رواية "الذين مسهم السحر"، مهى حسن ثلاث روايات: "عمت صباحاً أيتها الحرب" و"طبول الحرب" و"حيّ الدهشة"، سمر يزبك رواية "المشاءة" وكتاب يوميات "تقاطع نيران"، نجاة عبد الصمد رواية "لا ماء يرويها"، شهلا العجيلي روايتين: "سماء قريبة من بيتنا" و"صيف مع العدو"، أيمن مارديني روايتين: "سيرة الانتهاك" و"غائب عن العشاء الأخير" وسواها.
ومن روايات الجيل الشاب: ديمة ونوس أصدرت رواية "الخائفون"، فادي عزام رواية "بيت حُدد"، عتاب شبيب رواية "موسم سقوط الفراشات"، منهل السراج أصدرت روايتين: "عصي الدم" و"صراح"، عتاب أحمد شبيب رواية "حبق أسود"، سومر شحادة رواية "حقول الذرة" ومناف زيتون ثلاث روايات: "قليل من الموت"، "طائر الصدى"، "ظلال الآخرين" وسواهم.
ويجب في هذا السياق تذكر الشاعر والروائي سليم بركات الذي أصدر أكثر من رواية خلال سنوات الثورة في السويد، بلاد منفاه الطويل.
هذه بضعة نماذج من النتاج الروائي الغزير الذي كانت الحرب أو الثورة السورية حافزاً على بروزه، وهو نتاج مهم وطليعي ويحمل معالم غير مألوفة وخصائص أسلوبية وتقنية متعددة، مما يجعله في حاجة إلى مراجعة نقدية عميقة وشاملة، وإلى مقاربة تتطلب جهداً وتمرساً.
فهذا النتاج استطاع أن يشكل مفترقاً تاريخياً في مسار الحركة الروائية السورية بل هو أسّس رواية جديدة تماماً هي رواية الحرب السورية.
ويمكن الكلام بسهولة عن رواية ماقبل الثورة في سورية ورواية ما بعدها.
وعلى الرغم من شتات الروائيين وتوزّعهم بين الداخل والمنفى، فهم استطاعوا أن ينطلقوا من قاعدة أو أرض توحّد جهودهم ومعاناتهم وأسئلتهم ليكتبوا أدب المرحلة الجديدة.