بعد مرور أربعة أشهر من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، تعهد روح الله الخميني في خطاب ألقاه آنذاك بأن يكون "رأي الشعب هو الميزان في الجمهورية الإسلامية".
إلا أنه على رغم هذا التعهد، رتب الخميني هيكل الحكومة بحيث تتم حماية مرشد إيران في جميع القضايا وبطرق مختلفة بدءاً من الإشراف والرقابة إلى المراسيم والقرارات الحكومية التي تصب في مصلحة نظامه.
ولا تسمح طبيعة النظام الإيراني للشعب أن يؤثر في القرارات أكانت جزئية أو كلية، لكنه بما أن قادة في إيران زعموا مراراً وتكراراً أن نظامهم ديمقراطي، فإن مشاركة المواطنين في الانتخابات وإن كانت محدودة تشكل أهمية كبيرة لأنهم يعتمدون عليها لإضفاء الشرعية على حكمهم.
"الانتخابات الحماسية" و"المسيرة الحماسية" و"المشاركة الحماسية" هي عبارات رددها المسؤولون ووسائل الإعلام في إيران كثيراً خلال العقود الأربعة الماضية. واللافت في الأمر أنه حتى عندما تكون مشاركة الناس محدودة أيضاً شاهدنا مثل هذه الادعاءات تطرح من قبل المسؤولين وماكينة النظام الإعلامية، لكن الآن، وصل الأمر إلى نقطة أدرك حكام طهران أن مشاركة المواطنين في الانتخابات البرلمانية المقبلة ستكون منخفضة للغاية لدرجة أنهم لم يعد بإمكانهم أن يصفوها بالانتخابات "الحماسية".
وبالفعل، هذا ما يسمى "أزمة الشرعية". أزمة دقت ناقوس الخطر وتحدثت عنها وسائل الإعلام التابعة للنظام، إذ أجبرت صحيفة "كيهان" التي تعد المتحدثة باسم المرشد علي خامنئي أن تطالب الإصلاحيين بالمشاركة في الانتخابات لرفع نسبة مشاركة المواطنين.
وزعمت "كيهان" التي سبق أن دعت إلى إبعاد الإصلاحيين بصورة كاملة من المشهد السياسي الإيراني، في تقرير لها نشر على "عمود القراء"، أن الانتخابات المزمع إجراؤها في مارس (آذار) المقبل ستكون حماسية، مدعية أن "الإصلاحيين الذين هم في صف المتطرفين الذين حاولوا تضعيف الانتخابات سيفقدون رصيدهم ما لم يشاركوا".
وتظاهرت وسائل الإعلام التابعة للمرشد علي خامنئي بأن وجود الإصلاحيين في الانتخابات البرلمانية المقبلة سيبعدهم من "الاضمحلال السياسي" وقد يعيدهم إلى المشهد السياسي من جديد، لكن هذا التأمل العميق والانعطاف في مثل هذه الظروف يظهران جلياً أن حكام طهران يشعرون بقلق شديد إزاء انتخابات مجلس النواب ومجلس الخبراء المزمع إجراؤها في 2024.
في هذا السياق، تناول موقع "أمواج ميديا" في تقرير له الخميس الماضي، موضوع الانتخابات البرلمانية ومجلس الخبراء المقبلة، ونقل التقرير عن أحدث بيانات الاستطلاع قولها إن المسؤولين في إيران يواجهون لغزاً معقداً.
ونقلت وكالة "إيسنا" للأنباء الإثنين في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عن رئيس المنظمة الطلابية (جهاد دانشكاهي) حسن مسلمي ناييني قوله إن النتائج الأولية لمركز استطلاع آراء الطلاب الإيرانيين أظهرت أن قضية الانتخابات ليست من أولوياتهم.
وبحسب هذا الاستطلاع تبين أن 27.9 في المئة سيشاركون في الانتخابات و7.4 في المئة أجابوا بـ"احتمال ضعيف"، كما أجاب 36 في المئة أنهم لن يشاركوا في الانتخابات على الإطلاق، بينما 22 في المئة امتنعوا عن الإجابة.
وكما هو معلوم، فإن نتائج هذا الاستطلاع تتوافق مع التقارير الإعلامية وتصريحات بعض الشخصيات السياسية التي تحدثت خلال الأشهر الأخيرة عن عزوف الإيرانيين عن المشاركة في الانتخابات. وتفاقم هذا الوضع، خصوصاً بعد عمليات الإقصاء الواسعة التي قامت بها الجهات المتخصصة لمصلحة تيار سياسي معين.
وفي مقالة للصحافي والإصلاحي الإيراني المعروف عباس عبدي تعقيباً على هذا الاستطلاع، قال إن مستوى مشاركة الإيرانيين في الانتخابات المقبلة ستكون أقل حتى من الذين استطلعت آراؤهم، مضيفاً أن أقل من 15 في المئة من الأشخاص المؤهلين سيصوتون في العاصمة طهران، في حين أن طهران تمتلك أكبر عدد من النواب في البرلمان بـ30 معقداً.
وفي تحليل "أمواج ميديا" عن الأوضاع الحالية في إيران، ونقلاً عن عباس عبدي، قال إن متشددي الحكومة عادة ما يلقون اللوم في الوضع الحالي على عاتق الحكومة السابقة (حسن روحاني)، والبعض الآخر يعتبر أن "العدو" هو السبب الرئيس في عزوف المواطنين عن التصويت والمشاركة في الانتخابات.
وتحدث هذا التقرير التحليلي نقلاً عن حسين مرعشي وهو سياسي إصلاحي، بالقول إنه حتى انتخابات مجلس النواب عام 2019، كان التوجه السياسي العام "يدور حول مشاركة غالبية الناخبين"، لكن بعد ذلك التاريخ تغير الوضع كلياً وبدأ النظام يبحث عن "النتائج المرغوبة".
وانتقد مرعشي الإصلاحيين الذين لا ينوون المشاركة في الانتخابات المقبلة. وقال إنه لا ينبغي عليهم المشاركة في الانتخابات التي يعتقدون بأنهم سيفوزون بها فقط. وهذا يعني أن النظام يرغب في مشاركة الإصلاحيين في المشهد السياسي، بخاصة عندما تكون هناك ضرورة لمشاركتهم لإضفاء الشرعية وارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات.
ومن المقرر أن تجرى انتخابات مجلس خبراء القيادة في مارس من عام 2024، تزامناً مع انتخابات مجلس النواب في وضع مشابه تماماً، إذ تم استبعاد وإقصاء عدد من المرشحين الإصلاحيين البارزين لمجلس خبراء القيادة، ويبدو أن هناك تقارير تتحدث عن احتمالية إقصاء الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني عن الترشح لخوض سباق الانتخابات لمجلس الخبراء.
أزمة المشاركة المنخفضة للمواطنين في الانتخابات أو حتى مقاطعتها خلال الفترات السابقة خلقت مشكلات وتحدياً للنظام الإيراني، ولعل ذروة هذه الأزمة كانت حدثت في الانتخابات البرلمانية لعام 2019، لكن كما ورد في تقرير "أمواج ميديا"، فإنه في ذلك الوقت أرجع المسؤولون الحكوميون الإيرانيون السبب في تراجع نسبة المشاركة إلى وباء كورونا. أما اليوم، فهذا العذر لم يعد موجوداً.
بالنسبة إلى مسؤولي النظام، فإن الحصول على النتائج المرجوة من الانتخابات أولوية قصوى. ولهذا يحاولون أن يصلوا إلى هذه النتيجة بأساليب وطرق مختلفة مثل استبعاد وإقصاء الخصوم السياسيين، كما أن مشاركة المواطنين مهمة بالنسبة إليهم لأنهم ومن خلالها يحصلون على الشرعية.
في الحقيقة بعد مقتل الفتاة الكوردية مهسا أميني في مركز الاعتقال التابع لشرطة الأخلاق في العاصمة طهران، تعمقت الفجوة كثيراً بين المواطنين والمسؤولين في النظام الإيراني، إذ إن عدداً من الجماعات والشخصيات الدينية والسياسية أعلنوا براءتهم من النظام.
ورفض المرشد الإيراني الذي يدعي أنه ونظامه ديمقراطي، المطالبات بإجراء استفتاء شعبي. أما الآن، فليس من الواضح بعد ما الذي يتعين على المسؤولين الإيرانيين القيام به للتغلب على أزمة الشرعية التي يعانيها نظامهم، إلا أنهم سبق ولجأوا إلى سد هذه الفجوة باللجوء إلى الفقه الشيعي.
ففي يوليو (تموز) عام 2009، عندما احتج المواطنون على نتائج الانتخابات الرئاسية، قال محمد يزدي، وهو أحد المراجع الدينية المقربة من المرشد علي خامنئي، إن "الحكم في النظام الإسلامي يأتي من أصل إلهي، والحاكم يستمد شرعيته من الله وليس من الناس".
وتكررت هذه الادعاءات مراراً وتكراراً على لسان رجال الدين المقربين من النظام، إذ وصل الأمر إلى حد أن الإمام الموقت لطهران كاظم صديقي ادعى في يوليو الماضي أن المرشد علي خامنئي قائد الجمهورية الإسلامية قد عين من قبل الله.