Skip to main content

الفن الافريقي لم ينل حقوقه

منحوتات من توغو
AvaToday caption
التقاليد الشفهية الأفريقية تروي سرديات يتكامل فيها البشر والحيوانات ويتعايشون، بعيداً عن أي علاقات هيمنة. ويمكن تصوير الحيوانات أن يعبّر عن فضائل أخلاقية
posted onAugust 14, 2023
nocomment

(للنشر ظهر السبت)على خلاف آثار حضارات أميركا اللاتينية والشرق الأوسط والأدنى القديمة، لم تحظ حتى اليوم آثار حضارات أفريقيا السوداء بالاهتمام العام الذي تستحقه، بل بقيت دراستها محصورة بأصحاب الاختصاص. هذا على رغم افتتان معظم رواد الحداثة الفنية الغربية بها، واستلهامهم إياها في سياق بلورتهم جماليات هذه الحداثة. هنري روسو، أندريه دوران، راوول دوفي، بيكاسو، تريستان تزارا، أندريه بروتون وفنانو الحركة السوريالية... جميع هؤلاء وغيرهم تأثروا بما بات يُعرف اليوم بـ "فنون أفريقيا البدائية" وتهافتوا بشغف محموم على جمع قطعها، من دون أن يؤول ذلك إلى توسيع دائرة انقشاعها أو إثارة ولع عام بها، كذلك الذي حظيت به آثار مصر القديمة أو بلاد ما بين النهرين أو حضارة الإنكا، كي لا نذكر غيرها.

ولتبديد بعضٍ من هذا الغبن الجائر في حق هذه الآثار، اغتنم متحف "ملتقيات" في مدينة ليون الفرنسية، فرصة تلقيه جزءاً كبيراً من مجموعة إيف وإيفا ديفيلون الفنية الأفريقية، لتنظيم معرض مهم وفريد من نوعه يحمل عنوان "أفريقيا، ألف تحفة وتحفة حيّة"، ويتتبع مسارات حياة قطع فنية أفريقية، من لحظة ابتكارها إلى انتهائها في صالة متحف أو مجمِّع فن، مروراً بمختلف استخداماتها، وبتحوّلها من قطع طقوسية إلى تحف فنية. معرض يدعو زواره، باستكشافه الهويات المتعددة لهذه القطع، إلى إلقاء نظرة أخرى عليها، وعلى الفن الأفريقي "البدائي" عموماً.

وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن القطع الحاضرة في المعرض يتجاوز عددها الـ 230، وتأتي بمعظمها من نيجيريا والكاميرون، ولكن أيضاً من دول أخرى تقع في أفريقيا الغربية أو الشرقية. أعمال تتراوح بين أقنعة وتماثيل وحلي بأشكال ومواد مختلفة، ويشكّل إدراك ظروف ابتكارها، واكتشاف تقنيات صنعها، وفهم استخداماتها الطقوسية والاجتماعية، مغامرة فريدة من نوعها.

في المعرض نعرف أولاً أن تصميم قطعةٍ ما في أفريقيا غالباً ما اتخذ دلالة اجتماعية أو دينية، وفقاً لنيات تتراوح بين الاتصال بكائنات خارقة والسعي خلف حماية أو مكانة. نعرف أيضاً أن الملوك أو زعماء القرى أو السحرة لجأوا جميعاً إلى حرفيين مختلفين، لإنجاز قطع تتوافق مع احتياجاتهم، مقابل أجر مادي، وحددوا لهؤلاء المظهر والوظيفة الروحية والرمزية للقطعة المرغوبة، إضافة إلى واجب تلبيتها هدفين غير منفصلين: أن تكون فعالة وجميلة.

ولصنع هذه القطع، استخدم الحرفيون الأفارقة موادّ استقوها من بيئتهم الطبيعية. ولأن المعادن تأتي من باطن الأرض وتتحوّل بفعل النار، اعتُبر استخراجها والعمل عليها نشاطين خطيرين لانتهاكهما النظام الطبيعي وإساءتهما إلى القوى الخارقة المرتبطة بالعالم السفلي. ولذلك، خضع هذان النشاطان لطقوس ومحرّمات عديدة، من بينها حظر جمع المعادن على نساء، وأحياناً رجال، في سن الإنجاب.

ونظراً إلى متانتها وبياضها وندرتها، تحلت مادة العاج بقيمة كبيرة في أفريقيا، وشكّلت خير هبة للملوك والزعماء الذين كانوا يوكلون نحاتين بارعين بمهمة إنجاز قطع جميلة منها لاستخدامهم الشخصي أو استخدام بلاطهم. وما لبث ريبرتوار النحاتين أن توسّع في نهاية القرن التاسع عشر ليشمل أعمالاً مرصودة للمستوطنين والسياح، مما أدى إلى مجازر رهيبة في حق الفيلة، قبل أن تلجم قوانين دولية صارمة تجارة العاج، من بينها قانون يحظر بيع أو شراء أي قطعة مصنوعة من هذه المادة بعد عام 1947 داخل المجموعة الأوروبية.

ولصنع قطع للاستخدام اليومي، لجأ الحرفيون الأفارقة إلى مواد طبيعية شائعة في بيئتهم، مثل ليف نخل الـ "رافية" وأشجار الـ "كالاباش" والطين. أما الخشب، الذي يُعتبر عنصراً حياً ويتحلى بقيم رمزية مختلفة، فشكّل مادة النحاتين الأساسية. وبينما تحكّم مظهره وسماكته بشكل القطع المنحوتة فيه، إضافة إلى مشروع النحات ومهاراته، خضعت هذه القطع أحياناً إلى تلوين وتزيين بمنسوجات أو مواد ليفية أو معدنية، بغية شحنها بقوة ودلالات خاصة.

وفي معظم دول أفريقيا، حُصرت ممارسة النحت بأولئك الذين تلقوا دعوة احترافه، ولكن ليس قبل أن يتعلموا أصوله على يد نحات معلّم. وفي عملهم، بدلاً من تمثيل الطبيعة أو الواقع، سعوا إلى تجسيد أفكار ومعتقدات، وإلى إنجاز منحوتات تتحلى بقدرات خيّرة أو تضطلع بوظائف مختلفة. منحوتات غالباً ما شرّك النحات فيها صوراً ملموسة بأخرى مجرّدة، وعناصر بشرية بأخرى غير بشرية. ولا عجب في ذلك، فالتقاليد الشفهية الأفريقية تروي سرديات يتكامل فيها البشر والحيوانات ويتعايشون، بعيداً عن أي علاقات هيمنة.

ويمكن تصوير الحيوانات أن يعبّر عن فضائل أخلاقية، عن عيوب بشرية أو قواعد اجتماعية. أما تشريك الأشكال البشرية والحيوانية، فغايته استحضار الخارق والعلاقات المعقّدة بين العالم المتحضّر وعالم الطبيعة. وبما أن لكل مجموعة بشرية معتقداتها، تحضر تصوّراتها للأصول عن طريق أشكال ورموز خاصة ودالة. هكذا، يمكننا تحديد خصائص مشتركة تبدو وكأنها أساليب خاصة. لكن إسنادها إلى هذه المجموعة البشرية أو تلك يبقى غير مؤكَّد لأنها، مثل سرديات الأصول والمعتقدات، سافرت خارج موطنها الأصلي.

ولدى إنجاز النحات القطعة المطلوبة، كان يسلّمها إلى صاحبها. وعندئذ، كان استخدامها هو الذي يحدد موقعها وطريقة التعامل معها. وفي إطار التعبّد الشخصي، ونظراً إلى القوة التي تختزنها وإلى كونها وسائط مع عالم الغيب، كانت التماثيل الصغيرة تُحمَل في ثنايا الملابس أو تُحفَظ في غرفة النوم. أما التعبّد الجماعي فكان يتم في الفناء المشترك أو في غرفة مخصصة لهذا الغرض، فتوضع التماثيل على مذابح أو تشكّل بذاتها مذابح. ووفقاً للظرف، كانت تُداعب سطوحها وتُزيَّت وتُزيّن، إضافةً إلى تقديم الطعام والقرابين لها لإرضاء القوى الخفية والحفاظ على علاقات جيدة معها. وفي السياق نفسه، يشكّل الرقص بالأقنعة وسيلة لتعزيز الروابط الاجتماعية، وتكريم الأسلاف وإرضاء القوى الخفية. ولا يقتصر القناع على القطعة المنحوتة التي تخفي الوجه، بل يشمل كل الزي الذي يستر جسد مرتديه، وأيضاً الإيماءات المتّبعة خلال الحدث.

وفي أفريقيا، لطالما تجلّت قوة الفرد وهيبته عن طريق الهندام وغطاء الرأس والحلي وأشياء أخرى تخرج عن المألوف، غالباً ما يكون تصنيعها مكلفاً من حيث الوقت والموارد. قطع ثمينة إذاً تنتقل من جيل إلى جيل وتُعرَض في مناسبة الاحتفالات الكبرى، وترتبط بأصحابها إلى حد تصبح فيه حارسة ذاكرتهم بعد وفاتهم. ولصنعها، كان الملوك وزعماء القبائل يحيطون أنفسهم بفنانين متخصصين ينتجون شعاراتهم الخاصة وقطعاً غايتها تعزيز هيبتهم. ولذلك، كانت تُزيَّن الحلي والغلايين والأوعية وحتى العناصر الهندسية بنماذج ورموز خاصة تربط الملك أو الزعيم بأسلافه، وتوحي برابطه مع حيوان رمزي، وتضمن له حماية القوى الخفية.

يبقى أن نشير إلى أن معظم الآثار التي انتقلت من أفريقيا إلى أوروبا، انتهت داخل مجموعات فنية خاصة أو عامة، واقتُنيت إذاً لقيمتها الجمالية أو العلمية، فتحولت من قطع ذات قيمة ثقافية وطقوسية وعائلية، إلى تحف فنية. وتفسّر هذا التحول النظرة الملقاة على هذه القطع التي بات تقييمها مرهوناً بسوق فنية دولية ينشط داخلها تجار غربيون وأفارقة، وبمتاحف وغاليريهات مرصودة لها، وبهواة افتتنوا بها وساهموا بقوة في توسيع دائرة قيمتها وتأويلها.

ولأن عدداً مهماً من هذه القطع اقتُني في الماضي عن طريق السرقة أو الاحتيال، خضع موضوعها منذ منتصف القرن الماضي لنقاش في أوروبا حول واجب إعادتها إلى أصحابها الشرعيين، أدّى في النهاية إلى سنّ ما يُعرَف بـ "القانون الأخلاقي لمجلس المتاحف الدولي" الذي بات يفرض على المتاحف الغربية التحقق من أصول مقتنياتها. ومع ذلك، توجّب انتظار سنوات طويلة قبل أن تبدأ الحكومات والمؤسسات الفنية الأوروبية الكبرى بردّ عشرات القطع المنهوبة إلى الدول الأفريقية التي سُرقت منها. والعملية لا تزال في بدايتها.