هل يصنع كورد تركيا معجزة التغيير

علي الصراف

يحتاج كمال قليجدار أوغلو إلى معجزة لكي يفوز على رجب طيب أردوغان. والزمن ليس زمن معجزات. ولكن كورد تركيا يمكنهم أن يصنعوا واحدة تخدمهم كقومية، وتخدم تركيا كوطن للجميع.

لقد صوت الكورد في الجولة الأولى من الانتخابات بنسبة 62 في المئة لصالح قليجدار أوغلو، ولكن هذه النسبة لا تكفي لتجاوز العتبة، لاسيما وأن القومي المتطرف سنان أوغان الذي حصل على نحو 5 في المئة من الأصوات، يميل سياسيا إلى أردوغان، رغم أنه كان يفترض أن يميل عقائديا إلى قليجدار أوغلو. ولكن التطرف تطرف، ونهاياته عادة ما تلتقي ببعضها. هذا إذا لم يكن الرجل “صنعة” مخابراتية لتشتيت الأصوات. فإذا ما نظرت إلى شروطه لمنح التأييد لأحد الطرفين، فإنك سوف تعرف مسبقا لصالح مَنْ أُعدت الصنعةُ مسبقا.

أوغان اشترط مواجهة “الإرهاب الكوردي”. وهذا تعبير رمزي يقصد، في معناه الحقيقي، مواجهة حقوق ومطالب الـ15 مليون كوردي، الذين يشكلون 20 في المئة من مجموع السكان. وهو ما كان بمثابة شرط مسموم.

أردوغان وافق عليه. وقام بزيارته في مكتبه ليكسب دعمه، ولكي يدقّا حبوب السم معا. وفي هذا ما يكفي دليلا على أن أردوغان لن يكتفي بمواصلة حملته ضد الكورد، وتجريم أحزابهم، واعتقال قياداتهم، وتجريد نوابهم من مقاعدهم البرلمانية، ورؤساء بلدياتهم من مناصبهم المحلية فحسب، ولكنه سوف يرفع مستويات التهديد لتشمل حربا أوسع ضد الكورد في العراق وسوريا أيضا.

لا يملك الكورد في تركيا سوى خيار واحد هو دعم قليجدار أوغلو بنسبة يفترض ألا تقل عن 92 في المئة لكي تتحقق المعجزة. الفرق بين تصويتهم في الجولة الأولى وهذه النسبة هو الذي سوف يكفل تعويض الـ5 في المئة التي سوف يحصل عليها أردوغان من دعم أوغان له. والمسألة لا تتعلق بنسبة التصويت، بل بنسبة المشاركين في التصويت، فهذه وحدها هي التي تكفل تغطية الفارق المسبق بين أردوغان وقليجدار أوغلو. ويصعب تصور أن الكورد، وحزبهم الجديد “اليسار الأخضر” يمتلكون الوسائل اللوجستية الكافية لضمان مشاركة الغالبية العظمى من الناخبين الكورد.

دعم الكورد لزعيم “حزب الشعب الجمهوري” الذي أسسه كمال أتاتورك، يبدو مفارقة قائمة بذاتها. لأن الأتاتوركية هي التي سحقت حقوق الكورد ولم تعترف بهويتهم القومية. ولكن هناك عاملين مهمين. الأول، هو أن قليجدار أوغلو ينتسب إلى الأقلية العلوية. والأقلويون يمكنهم أن يتفهموا حقوق ومطالب الأقلويين الآخرين. أو في الأقل لا يتطرفون ضدها، مثلما يفعل “الأكثرويون”.

العامل الثاني، الأهم، هو أن كورد تركيا يتقبلون حقيقة أن تركيا هي وطن نهائي لهم. وأنهم مواطنون أتراك. ولا يعتزمون تمزيق بلادهم، ولا يتطلعون إلى إقامة “دولة قومية كوردية” لا تتوفر لها مقومات القبول.

المسافة بين الحق والواقع، يمكن أن تُردم عندما يتغير الحق أو يتغير الواقع. السبيل الثالث الوحيد الباقي هو أن تؤدي التسويات إلى التقريب بين الحق والواقع. وهذا ما ظلت قيادات حزب العمال الكوردستاني تحاوله منذ عدة سنوات، وفي مقدمتهم زعيمهم السجين عبدالله أوجلان.

التطرف القومي الذي هيمن على بيئة السياسة والسلطة في تركيا لم يبق مجالا للتقريب، ولا أتاح الفرصة له، حتى عندما تخلى الكورد عن السلاح غير مرة.

كورد تركيا لا يريدون من الحق إلا أقله الآن. وهو أن يُعاملوا كمواطنين متساوين. العلمانية الأتاتوركية نفسها يجب أن تضمن لهم ذلك. وإلا فإنها لن تعود علمانية حقيقية.

امتحان العلمانية الحقيقية يصبح صعبا عندما يتعلق الأمر بحقوق الأقليات، لأنه يأخذ إرث الصراع بالاعتبار. ولكن وجود أقلوي مثل قليجدار أوغلو يمكن أن يجعله أيسر.

على الأقل، ليقبل من الواقع ما هو واقع. وفي ذلك ما يعني أن الكورد، كالعلويين الأتراك، جزء من التعددية التي يحسن الاحتفال بها لا محاربتها، أو تصنيفها كعدو.

العلويون الأتراك، هم رأس حربة العلمانية التركية. باطنيتهم دفعتهم إلى قبولها كغطاء، قبل أن يتلبسها مثقفوهم ومتعلموهم كهوية، حتى تغلغلوا بها في كل مراكز المؤسسات التركية. العامل الحاسم، هو أنهم اعتبروا تركيا وطنا نهائيا. وكأقلية دينية، فإنها لم تكن، من الأساس، تبحث عن “فردوس مفقود”.

كورد العراق هم الذين ظلوا يغذون هذا البحث بطموحهم الانفصالي، قبل أن يكتشفوا أن المسافة بين الحق والواقع كانت هوة من سوء السياسة، وسوء التدبير.

كورد سوريا هم أفضل من تعلم الدرس. أتاحت لهم الحرب ضد تنظيم داعش، والدعم الخارجي، الفرصة لكي يرفعوا عيار التطلعات. إلا أنهم أبقوها قيد الانضباط الشديد، من أجل حريات وحقوق ديمقراطية في إطار وطن واحد.

الدرس كان يقول: نتحرر كقومية، عندما يتحرر السوريون كلهم من الاستبداد والعنف.

هذا الدرس، هو الذي غابت عنه التجربة الانفصالية التي قادها مسعود بارزاني إلى هاوية الفشل. تحالف مع الفساد ومع العمالة لإيران، فارتد الفساد والعمالة عليه.

كورد تركيا لا يريدون من العلمانية إلا ما تقوله عن نفسها. كما لا يريدون من الديمقراطية إلا أن تثبت أنها تتسع للجميع.

القدر وحده هو الذي يُلقي على عاتقهم الآن أن يصنعوا التغيير. ولكنه قدر، لن يمكن اللحاق به من دون معجزة.