صالح أبوعوذل
دخلت الأزمة/حرب بالوكالة في اليمن، السنة التاسعة، في بلد لم يعرف الاستقرار منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، حين وقعت اتفاقية مشروع وحدة بين الجمهورية العربية اليمنية ودولة اليمن الجنوبي، وهو المشروع الذي فجر صراعا لا تزال اثاره إلى اليوم، وعرف بحرب صيف العام 1994، التي جعلت من تنظيم القاعدة أقوى فروع التنظيم في جزيرة العرب وأكثرها تطرفا، لتصبح اليمن موطن التنظيم المتطرف الذي تشكل نتيجة اندماج مع الفرع السعودي.
في العام التاسع للحرب التي تقودها السعودية، لمنع النفوذ الإيراني في الجزيرة العربية، وقعت الرياض اتفاقية تطبيع مع الخصم اللدود طهران، في العاصمة الصينية بكين، في العاشر من مارس/اذار المنصرم، وهو الاتفاق الذي يفترض ان يؤتي ثماره بتقديم حلول الازمة اليمنية المتفاقمة.
تعود جذور الازمات والاقتتال العنيف والدموي في اليمن إلى مطلع العام 1993، حين تعرض الشركاء الجنوبيون في مشروع الوحدة اليمنية، لتصفيات جسدية من قبل متطرفي تنظيم قاعدة الجهاد الإسلامي (العائدون من أفغانستان)، والذين كانوا يحظون بدعم من نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.
فرض صالح سيطرة عسكرية على الجنوب عقب حرب استمرت لعدة أشهر، كان لـ"الأفغان العرب"، بقيادة أسامة بن لادن، الدور الفاعل في السيطرة، بعد ان تم توظيف الدين لهزيمة نظام الجنوب الحليف السابق للاتحاد السوفيتي الذي تفكك اثر الحرب الباردة.
وضعت الهيمنة العسكرية على الجنوب وإقصاء الجنوبيين، اليمن على فوهة بركان. فالأفغان العرب تحولوا الى خصوم للنظام الذي تخلى عنهم بعد ان انتهت مهمتهم بالسيطرة على عدن، ليحمل هؤلاء السلاح مرة أخرى في مواجهة النظام اليمني واستهداف المصالح الدولية والأميركية على وجه التحديد، ومنها استهداف المدمرة الأميركية يو اس اس كول، في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول العام 2000. وقد تسبب الهجوم الذي خلف ضحايا، بأزمة كبيرة لليمن، الذي لم تمر سوى أربع سنوات حتى ظهرت حركة التمرد الحوثية في صعدة في العام 2004.
وقد شكل ظهور حركة "الشباب المؤمن" الشيعية المدعومة من إيران، تهديدا واضحاً للسعودية "السنية"، التي سارعت إلى تشكيل حركة سنية مناهضة في قلب محافظة صعدة، ذات الأغلبية الزيدية الشيعية، وهو ما دفع نحو اقتتال طائفي بين السلفية الجهادية والحركة الحوثية الشيعية، قبل ان تشارك القوات الحكومية في ستة حروب – بين 2004 و2009- وحين فشلت القوات العسكرية وحركة دماج السلفية في إيقاف الحوثيين، شاركت المملكة الخليجية الثرية في الحرب السادسة بغارات مكثفة استهدفت مواقع المتمردين في جبال مران وكتاف اقصى الشمال اليمني.
رغم ان المناطق الجنوبية السعودية المحاذية لليمن فيها اغلبية شيعية (اسماعيلية وزيدية)، الا ان السعودية راهنت كثيرا على رجل دين يمني من الاخوان المسلمين يدعى يحيى الحجوري، والذي خسر المواجهة امام الحوثيين في العام 2014، حين سحب السلفيين من دماج بموجب تدخلات من الرئيس اليمني المتنحي عبدربه منصور هادي حينها.
كان الحوثيون يشكون انهم يتعرضون لحرب دينية وطائفية، بسبب شعائرهم الدينية الشيعة الاثني عشرية، لكنهم سعوا نحو السيطرة على كامل الجغرافيا اليمنية، بما في ذلك الجنوب السني.
أسقط الحوثيون صنعاء في الـ21 من سبتمبر/أيلول 2014، بعد ان استفادوا كثيرا من انتفاضة الربيع العربي التي حظيت بتشجيع ودعم من إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وفقا لاعترافات أدلت بها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، والتي أكدت دعم إدارة أوباما للمحتجين خلال ما عرف بـ"الربيع العربي" عام 2011.
وفي فبراير/شباط 2015، اجبر الحوثيون الرئيس المؤقت حينها عبدربه منصور هادي على التنحي من السلطة والفرار صوب عدن، ثم تبعوه مرة أخرى كذريعة للسيطرة على خليج عدن ومضيق باب المندب الاستراتيجي، الذي يكتسب أهمية كبيرة حيث يمر عبره حوالي 57 قطعة بحرية يوميا، أي نحو 21 ألف قطعة بحرية سنويا.
شعرت السعودية ومعها الإمارات ومصر، بخطورة الموقف وسيطرة الاذرع الإيرانية على الممر المائي، خاصة وان الجيش اليمني الذي قاتل الحوثيين لنحو ستة أعوام في صعدة، قد أصبح تحت أمرة وإدارة الحوثيين العسكريين، لتطلق الرياض عاصفة الحزم في الـ26 من مارس/آذار2015.
وحققت العمليات العسكرية أهدافها خلال أيام قلائل بشل القدرات العسكرية للحوثيين، وصولا الى طردهم من عدن ومدن جنوب اليمن الأخرى في غضون أربعة أشهر من القتال العنيف الذي خلف آلاف الضحايا بينهم مدنيون.
يعود الفضل في تحقيق الانتصار في جنوب اليمن إلى طبيعة التحالفات العسكرية التي اسستها الامارات بالاعتماد على الجنوبيين، أصحاب النزعة الانفصالية الذين لديهم مشكلة هيمنة عسكرية سابقة من قبل نظام صنعاء.
كان تحرير الجنوب اليمني له عوامل نجاح كثيرة، من بينها وجود قاعدة صلبة لقضية وطنية يدافع عنها أهل الجنوب، وجود قاعدة جماهيرية رافضة للوجود اليمني – الحراك الجنوبي- إضافة الى التدخل العسكري الاماراتي على الأرض، كلها عوامل ومعادلات أسهمت في تحرير الجنوب مرتين من الحوثيين وتنظيم القاعدة وداعش.
في اليمن الشمالي كانت السعودية بحاجة الى حليف عسكري زيدي يمكن ان يدفع نحو تقليص نفوذ الحوثيين لمصلحة القبائل الزيدية الأخرى، فكان الاختيار قد وقع على حليف الرياض المرحلي الجنرال علي محسن الأحمر. الا ان الرجل لم تكن له رغبة في قتال الحوثيين "الزيود"، فهو الذي حيد قوات الفرقة الأولى مدرع من قتال الحوثيين حين اقتحموا صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، معتقدا ان هزيمة الحوثيين، تعني بشكل او بأخر هزيمة للزيدية السياسية الحاكمة لليمن، حيث البلد كان نظاما ملكيا، قبل الإطاحة به بدعم من النظام المصري في ستينيات القرن الماضي، وإقامة نظام الجمهورية العربية اليمنية التي ظلت أيضا تحت إدارة زيدية.
إن فشل حلفاء السعودية المحليين في اليمن، قد منح الأذرع الإيرانية قدرة أكبر على إعادة التوسع مجدداً، ناهيك عن ان الازمة الخليجية والعربية مع قطر، كان لها الدور الأبرز في عرقلة جهود هزيمتهم. فالمقاطعة للدوحة، كانت بسبب علاقتها الوثيقة بنظام طهران، وقد استطاع نظام الشيخ تميم التأثير بشكل او بأخر على حلفاء السعودية في محافظة مأرب، الذين لم يكونوا جادين في قتال الحوثيين.
ولكن العامل الأبرز في منح الحوثيين قدرة على إعادة شن هجمات على الجنوب اليمني، يتمثل في قيام الرئيس الأميركي جو بايدن بإلغاء قرار وضع الحوثيين على قوائم الإرهاب الاميركية، وقد كان لهذا القرار ردود فعل سلبية من جانب دول التحالف العربي التي اعتبرت بايدن داعما للحوثيين، على الرغم من ان الرجل التزم عندم مجيئه إلى البيت الأبيض، "بإيقاف الحرب في اليمن"؛ وهو ما لم يحصل.
استطاع الحوثيون إعادة التوغل في مراكز استراتيجية شرق صنعاء، بالسيطرة على معسكرات للقوات اليمنية الموالية للسعودية، وقد وصل الحوثيون في أواخر العام 2021، إلى ريف محافظة شبوة، حيث حقول النفط، الا انه تم طردهم بقوات العمالقة المدعومة من الإمارات في مواجهات استمرت زهاء 30 يوما.
على الرغم من ان الرياض تقود التحالف العسكري ضد الحوثيين، الا انها فتحت العديد من قنوات الحوار والتفاوض مع إيران، بجولات طويلة بدأت في ظهران الجنوب بالسعودية، وصولا إلى بغداد ثم مسقط وأخيراً في بكين التي جنت ثمار جولات المفاوضات طوال سنوات الحرب، وقدمت نفسها كلاعب رئيس في الشرق الأوسط، منافس لواشنطن.
لكن الولايات المتحدة لا تزال فاعلة في ملف مكافحة الإرهاب، فخلال الأعوام الثلاثة الماضية نجحت واشنطن من الإطاحة بقيادات بارزة في تنظيم القاعدة، لعل أبرزهم قاسم الريمي الذي قتل في غارة جوية بمحافظة مأرب اليمنية الخاضعة لسيطرة حلفاء السعودية، تلت ذلك ضربات أخرى أودت بحياة قادة في التنظيم بينهم خبراء متفجرات، لكن هذا لا ينفي وجود قصور في مكافحة الإرهاب من جانب الولايات المتحدة الأميركية، في ظل وجود اشتباك بين قوات الحزام الأمني الحكومية والتنظيم المتطرف في السلسلة الجبلية بمحافظة أبين المطلة على شريط بحر العرب.
المملكة العربية السعودية التي تقود تحالفا إسلاميا كبيراً، لمكافحة الإرهاب، تبدو غائبة تماما من ملف التنظيم في الجنوب، فيما يركز التنظيم هجماته بشكل رئيس على المجلس الانتقالي الجنوبي ودولة الامارات العربية المتحدة التي تقود جهود مكافحة الإرهاب منذ نحو ثمانية أعوام.
يبدو ان السعودية لم تكن لترغب في الدخول بمواجهة مع تنظيم القاعدة، خشية فتح جبهة أخرى، فمساعيها واضحة في انها تريد الخروج من الصراع مع الحوثيين والتفرغ لتحقيق مشاريعها الاقتصادية، لكن هذا لا ينفي دورها في مساعدة الأميركيين على استهداف قادة التنظيم، خاصة ممن يحملون جنسيتها، كان أخرهم حمد بن حمود التميمي، رئيس شورى القاعدة.
ترى الرياض أن مشكلة الحوثيين في اليمن، تشكل عامل قلق لها خاصة بعد ان امتلكت هذه الاذرع المحلية منظومة صواريخ وطائرات مسيرة إيرانية، تستهدف بها المؤسسات الاقتصادية، وأبرزها عملاق أرامكو.
وقد اعتقدت السعودية ان تقديم تنازلات من شانها ان تحد من هذه الهجمات الحوثية الإيرانية، على منشئاتها الاقتصادية العملاقة.
سارعت الرياض الى ارسال سفيرها إلى اليمن في ثلاث مناسبات، كانت جميعها بوساطة من سلطنة عمان التي تمتلك تأثيرا على الحوثيين، ففي منتصف يناير كانون الثاني الماضي، وصل السفير السعودي لدى اليمن محمد ال جابر الى صنعاء والتقى بقيادات الحوثيين، ثم أعقب ذلك بزيارة في الثامن من مارس/أذار الماضي، أي قبل يومين فقط من توقيع اتفاقية بكين، وفي العاشر من ابريل نيسان/الجاري، أعلن السفير السعودي عن زيارته لصنعاء، وذلك عقب يومين من محاولة التكتم على الزيارة مثل الزيارتين السابقتين.
قال السفير السعودي إن زيارته إلى صنعاء "هدفها تثبيت الهدنة وإطلاق سراح المعتقلين على ذمة الصراع المسلح"؛ فالرغم من ان الحوثيين قد رفضوا تجديد الهدنة التي أعلنتها الأمم المتحدة في السابع من ابريل نيسان العام الماضي، بعد ان تجدد لفترتين، تخللتها خروقات من كل الأطراف.
تذهب السعودية في مغامرة خطيرة للاتفاق مع الحوثيين، بعيدا عن القوى السياسية اليمنية والجنوبية، وتقدم نفسها كوسيط لحل الأزمة وهو ما رفضه الحوثيون الذين أصروا على انه سيحاورون الرياض كطرف "معتدي" على اليمن، ويبدو ان سفير السعودية قد وافق فكرة "أن بلاده طرف في الحرب وليست وسيطاً"، لذلك هي تهرب إلى الأمام بحلول هشة، قد تؤسس لاقتتال عرقي وطائفي يستمر لعقود قادمة، ما لم يتم تدارك الأمر.
بالنظر الى إشارات تقارير صحفية لقنوات سعودية وتدوينات ناشطين على منصات التواصل الاجتماعي، يبدو ان الرياض قد التزمت ضمنياً للحوثيين بالحفاظ على الوحدة اليمنية، وهذا يعني ان قائدة التحالف العربي قد انقلبت ضمنيا على حلفائها في الحرب ضد الاذرع الإيرانية، وابرزهم الحليف الجنوبي الذي صنع الانتصار الوحيد ضد الأذرع الإيرانية.
قال الحوثيون إن السعودية أبدت موافقة على شروط حوثية من بينها ان تذهب ما نسبته 80% من موارد النفط والغاز في الجنوب المحرر، إلى البنك المركزي في صنعاء، وهو ما يرفضه المجلس الانتقالي الجنوبي، لكنه لم يعلنه ذلك بشكل رسمي تجنبا للدخول في إشكالية مع التحالف العربي الذي لم يعلن ذلك بشكل واضح.
وبعيداً عن مشكلة الجنوب الذي يطالب الحوثيين بتعويضات وجبر ضرر الحرب المدمرة التي شنت على عدن، تبرز مشكلة أخرى في ميناء المخأ الاستراتيجي الخاضع لسيطرة العميد طارق صالح، والذي لديه مشكلة ثأرية مع الحوثيين الذين قتلوا عمه الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح.
يبدو ان السعودية تريد الذهاب نحو فرض حلول "هشة" على جميع الأطراف اليمنية لإنهاء الحرب، بما يعني إعادة اخضاع مدن محررة لمصلحة النفوذ الإيراني، بذريعة ان ذلك قد يحافظ على شكل اليمن موحدا، التي تقول الرياض ان الحوار على شكل الدولة "شأن يمني"، وفيما اذا نجح أي طرف في فرض مشروعه السياسي، فالسعودية لا تعارض ذلك.
لذلك هي تريد الخروج من هذه المشكلة وترك اليمن ان يغرق في مشاكل وصراعات متعددة، ستزيد من الازمات ليست في المنطقة ولكن قد تلقي بظلالها وأثرها على العالم، فمنابع النفط في مدن الجنوب قد تتعرض للاستهداف وربما إيقاف تصدر النفط بشكل نهائي، ناهيك عن ان أي صراع قد يمنح تنظيم القاعدة فرضة لإعادة ترتيب صفوفه وتوحيد قيادته التي تعاني من انقسام واضح، وهو الانقسام الذي جعل قيادات الصف الأول "كصيد سهل" للطائرات الأميركية المسيرة.
ولكن تظل المشكلة اليمنية بحاجة ان يترك اللاعبون الكبار، الغموض وان تكون المواقف أكثر وضوحاً للتعامل مع أزمة في طريقها إلى ان جولة صراع جديدة أشد دموية فيما اذا كانت الحلول الهشة وترحيل القضايا إلى المستقبل، وما هو ممكن معالجته اليوم قد يكون صعبا وربما مستحيلا في المستقبل.