Skip to main content

المأساة السورية في روايتين بريطانيتين

رواية
AvaToday caption
تثير أونجالي مثلها مثل كريستي كثيرا من الأسئلة عن واقع الحرب واللجوء، وكيف يتمّ تمزيق الأسر وضياعها جرّاء الكوارث التي تفتك بها، وكيف أنّ الفجائع تكبر بالتقادم كأنّها لعنات تطارد اللاجئين في حلّهم وترحالهم
posted onApril 6, 2023
nocomment

كتب العشرات من الأدباء السوريين روايات وأعمالا عن واقع بلدهم قبل سنة 2011 وبعدها، منها ما حفر في التاريخ الحديث للبلاد، ومنها ما حاول تفكيك منظومة الفساد والاستبداد، وحاول توثيق حكايات كثيرة ومؤثرة على هامش الحرب التي تسبّبت بدمار هائل في البلاد ناهيك بتشريد الملايين من السوريين في مشارق الأرض ومغاربها، لكن تأثير معظم تلك الأعمال ظلّ في إطار محدود، وفي حيّز عربيّ مصنّف، ولم يتمكّن من الوصول إلى العالمية إلا في حالات استثنائية معدودة، تقاطعت فيها الظروف والملابسات التي شكّلت روافع إضافية مساعدة لها.

في المقابل هناك أدباء يصنّفون في خانة الغربيين كتبوا أعمالا روائية عن المأساة السورية والتداعيات التي خلّفتها، نالت حظّها من الشهرة وتوّجت بعدد من الجوائز، ولا تزال أصداؤها تتردّد هنا وهناك، ويقابلها القراء الغربيون بردود فعل إيجابية، وبخاصة هنا في بريطانيا. من تلك الأعمال على سبيل المثل رواية "نحّال حلب" للبريطانية من أصل يوناني كريستي لَفْتِيري التي فازت بجائزة أسبن الأدبية، وتحوّلت إلى مسرحيةتعرض في بريطانيا حاليا، ورواية "الفتى الجالس في آخر الصف" للبريطانية من أصل بنغالي أونجالي ك. رؤوف التي فازت بجائزة "بلو بيتر" وجائزة "وتورستونز" لكتاب الطفل.

ما يجمع الكاتبتين أنّ كلتيهما بريطانية من خلفيات مهاجرة، فكريستي لَفْتِيري هي ابنة مهاجِرَين قبرصيين، وعملت متطوِعة في مركز للاجئين تشرف عليه منظّمة يونيسيف في العاصمة اليونانية أثينا. وأونجالي ك. رؤوف البنغالية الأصل عملت متطوّعة في مخيّم كاليه على الحدود الفرنسية البريطانية، واطلعت كلّ منهما خلال عملها التطوّعي على حكايات كثير من اللاجئين، وبخاصة السوريين منهم.

وعلى الرغم من أنّ عملَي كلّ من كريستي لَفْتِيري وأونجالي ك. رؤوف مختلفان من حيث المستوى والصياغة والتوجّه والشرائح المستهدفة، إلّا أنهما يشتركان في بعض النقاط التي تبدو علامات للقراءة أو نتائج يمكن استخلاصها ما بعد القراءة، حيث تركّز الكاتبتان على محنة اللجوء العالمية وأزمة اللاجئين، وبخاصة السوريين منهم، وتنقلان معاناة السوريين الواصلين إلى بريطانيا، وكيف أنّ أوجاعهم المنقولة معهم تلقي بظلالها على حياتهم الجديدة، ومن ثمّ بعد سلسلة من المساعدات يتمّ الاستشفاء منها تدريجيا وتنجح سبل المعالجة، ليظهروا أناسا جددا من قلب حكايات الفاجعة ومرويات المأساة.

تصوّر كريستي لَفْتِيري في "نحّال حلب" حكاية كلّ من الزوجين السوريين نوري وعفراء، ورحلتهما الشاقة إلى بريطانيا، وكيف أنهما تعرّضا للقهر والظلم والإذلال طوال الرحلة التي مرّت بمحطّات في عدد من الأماكن في تركيا واليونان.

تحكي لفتيري حكاية بطليها اللذين كانا يعيشان حياة طبيعية قبل الحرب، فنوري كان مربّيا للنحل وزوجته عفراء كانت رسّامة، وكان لديهما طفل صغير، لكنّ الحرب دمّرتهما وشوّهت حياتهما، وذلك بعد فقدان ابنهما الوحيد جرّاء القصف الذي طاول بيتهما، وفقدان عفراء لبصرها اثر الحادثة، ثمّ القرار المتأخّر بمغادرة البلد الذي ضاق بهما والخروج إلى المجهول بحثا عن أمان مأمول.

تنقل لفتيري جانبا من التحوّلات التي اجتاحت شخصية بطلتها عفراء، وكيف أنها كانت امرأة مختلفة قبل الحرب، تقضي أيامها مع ابنها ومع لوحاتها بمتعة لا حدود لها، لكنّها أصبحت عاجزة وفقدت أيّ دافع للحياة بعد خسارتها ابنها وبصرها، وتعرّضها للاغتصاب في رحلة التهريب المضنية، وكأنّ الحرب لعنتها في الصميم وقلبت حياتها رأسا على عقب

بعد سرد كثير من التفاصيل عن أزمنة مختلفة بين سوريا وبريطانيا من حياة الزوجين نوري وعفراء، تصل الروائية كريستي لفتيري إلى اللحظة التي تسير بها نحو نهاية روايتها فتختار لها خاتمة سعيدة مبشّرة، حيث تستعيد عفراء بصرها وتتماثل رويدا رويدا للشفاء، وتحظى بالإقامة في ملجئها وتحاول التكيّف معه من دون أن تنسى ما أصابها، بحيث توحي أنّ المكان الجديد وما يجود به هو السبب في علاجها وتخفيف آلامها وإعادة البصر والأمل إليها. وهنا تكون "المعجزة" البريطانية التي تحتفي بها في السياق.

تقول لفتيري في نهاية روايتها إنّها بعدما أمضت شهورا في صيف عام 2016، وصيف عام 2017 في أثينا، حيث عملت متطوِعة في مركز لإيواء اللاجئين تنبّهت إلى أمر مهمّ، وبدأت تدرك أنّ اللاجئين أرادوا أن يسردوا ما جرى معهم من أحداث، لكنّ حاجز اللغة حال دون ذلك، غير أنهم أرادوا أن يحكوا ما يعتمل في داخلهم، وأن يستمع إليهم الآخرون، وأن يشهدوا ماذا حلَّ بهم. أمّا الأطفال فقد عبَّروا عن ذلك برسم اللوحات. وتلفت إلى أنّ تلك اللوحات أقضَّت مضجعها وهزَّتها القصص التي سردوها. و‫ما لبثت أن عادت إلى لندن، وكان الأمل يحدوها في أن يتلاشى رعب ما رأته وما سمعته، بيد أنّ ذلك لم يحصل. وتقول: "لم أستطع نسيان ولو أي جزء ممَّا حصل. لذلك قررتُ أن أكتبَ رواية لتكون بمثابة وسيلة أروي بها قصص هؤلاء الأطفال وتلك الأسَر".

أمّا أونجالي ك. رؤوف التي، وإن كانت روايتها "الفتى الجالس في آخر الصف" تتوجه إلى الأطفال واليافعين، وتشكّل مادة لافتة للكبار كذلك، فإنها تحتفي بإنجازات المكان الجديد، الملجأ البريطاني الشافي والمعافي للطفل اللاجئ أحمد الذي يعاني الكثير من المشقّات في التأقلم مع محيطه في المدرسة ومع عالمه الجديد، ومع الأطفال الذين يتعاطفون معه ويخلقون له جوّا من الدعة والأريحية للاندماج معهم والتكيّف في حياته بصحبتهم.

الطفل الصغير الذي يقاسي الأهوال والناجي من أهوال الحرب والبحر، بعدما غرقت أخته الصغيرة وكلبها، وبعدما فقد والديه ولم يعرف عنهما شيئا، يصل إلى برّ الأمان بفضل رعاية عائلة إنكليزية له، ومن ثمّ بمساعدة الأطفال في صفه يتجاوز محنته ويتخطّى حاجز اللغة والحواجز النفسية التي تمنعه من الاندماج، ليصل إلى مرحلة يستطيع فيها تقبّل نفسه وواقعه، ويكون هناك لمّ للشمل في النهاية مع والديه المفقودين، بحيث يترك الماضي قابعا خلفه، وفي زاوية من داخله ومتوجّها صوب مستقبله بمساعدة الأطفال والكبار من حوله، وبمعيتهم.

تتوّج رحلة أحمد المرهقة نحو الاندماج بالنجاح، وذلك بعد أن يمرّ بكثير من المحطّات التي تنتقل به من القسوة والقلق إلى الهدوء والسكينة، ويتمكّن بعد المساعدات التي يتلقّاها من تقبّل نفسه وواقعه، ويكون مثلا على أزمة كبرى متمثّلة في حياة اللاجئين الفارين من بلادهم والذين تتفرّق بهم السبل، وتتفتّت أسرهم ويسيرون في متاهات طويلة الى حين التمكّن من التمتّع بصورة حياة طبيعية هادئة بعيدا عن أجواء الحرب والدمار.

تثير أونجالي مثلها مثل كريستي كثيرا من الأسئلة عن واقع الحرب واللجوء، وكيف يتمّ تمزيق الأسر وضياعها جرّاء الكوارث التي تفتك بها، وكيف أنّ الفجائع تكبر بالتقادم كأنّها لعنات تطارد اللاجئين في حلّهم وترحالهم، وتفضي بهم إلى دروب موحشة ورحلات لا ترحمهم، وكيف أنّ هناك ناجين يحملون كوابيس الحرب والطرق القاسية إلى الملاجئ معهم في دواخلهم لسنوات وسنوات.

من الأهمّية بمكان التشديد على ما كتبته كلّ من كريستي لَفْتِيري وأونجالي ك. رؤوف في عمليهما الروائيين المؤثرين، لكن يظلّ السؤال عن دور الأدب في الحدّ من الأزمات أو تخفيف آثارها الكارثية حاضرا، وذلك بالموازاة مع السؤال عن أهمية ما يكتبه أبناء المأساة والقضية عن محنتهم وقضيتهم، وهل يتمّ إسماع صوتهم كما يجب أم أنّ حواجز اللغة تحول دون ذلك، وأنّهم يظلّون في عالم بعيد عن الأضواء التي تسلّط على مآسيهم المروية والمكتوبة بأقلام الآخرين وبلغاتهم الأجنبية، وعليهم الانتظار إلى وقت آخر كي تقرأ حكاياتهم وتصل إلى شرائح أوسع من القرّاء.