رشيد الخيُّون
لفت الشّيخ عبد الحليم الزهيري، أحد البارزين في قيادة حزب الدَّعوة الإسلامية، الأنظار إلى مسألة مهمة، وهو يتحدث عن محمد باقر الصَّدر(أعدم 1980)، وإفتائه بجواز استخدام الخمس في العمل السياسي الحزبي، يوم كان وكيلاً له وللمرجع أبي القاسم الخوئي. ومعلوم أن الخمس فريضة مالية يقرها فقه الشيعة الإمامية، وتذهب عادة إلى الصرف على طلبة الفقه وإعانة المعوزين، لكن كيف يُبرر استخدامها في العمل السياسي والحزبي؟ وحسب الزّهيري أن «الصَّدر» وجد لها مخرجاً فقهياً، عندما اعتمد على «الدَّعوة» لحراكه الإسلامي، لقلة الوكلاء الشرعيين لديه، مع وجود المراجع الذين لا يرضيهم حراكه. بمعنى كان للصَّدر حراكه الخاص، ولم يكن له خيار غير استخدام الدَّعوة.
صحيح أن الصَّدر لم يستفد شخصياً مما يُسمى بالحقوق الشّرعية (الخُمس) التي تُجمع له من مُقلديه، وهم قلة لأنه لم يكن منافساً لكبار المراجع آنذاك، غير أن استخدامها في العمل السِّياسي، يُذكر بالمال الذي كان يجمعه نُقباء الثَّورة العباسية مِن الأتباع للصرف على الحراك الثَّوري، وعدد النُّقباء كانوا اثني عشر.
يذكر الطَّبري(ت310هـ): «والنُّقباء الاثنا عشر هم الذين اختارهم محمد بن علي مِن السَّبعين الذين كانوا استجابوا له حيث بعث رسوله إلى خُراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة»(الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك). أما عن الخمس، فقد وردت في العبارة ضمن كتاب قائد الثورة العباسية «مِن نفقات الشِّيعة»(تاريخ الأُمم والملوك).
اختلف مراجع الشيعة في أسلوب أخذ الخمس مِن الأتباع، كفريضة دينية، منهم مَن تركها للمُخَمس، أن يصرفها على الفقراء والمعوزين مِن أبناء الطائفة، ونُقل أن المرجع الأكبر في زمانه أبو الحسن الأصفهاني(ت1946) كان يفضل صرفها مباشرة على المحتاجين، وأبلغني أحد العارفين أنه سأل مَن أتاه بالخمس: هل تعرف بمنطقتك مَن يحتاج لها؟! قال: لا يوجد، وما عندنا غير يهودي صاحب حاجة، فما كان منه إلا أن أشار عليه بصرفها على ذلك الشَّخص، مِن دون أن يمنعه اختلاف ديانته.
كان ذلك قبل هجرة وتهجير يهود العراق، وما حصل لهم، مثلما يحصل اليوم لمسيحيي العراق ومندائييه الصابئة، وإن حصل هذا فباب التسامح مفتوح على مصراعيه، مِن قِبل هذا المرجع وأمثاله. لكن لا نذهب بعيداً فأبو الحسن المسعودي(346هـ) نقل في «مروج الذهب»: أن سفير علي بن أبي طالب إلى الخوارج بالنَّهروان كان يهودياً مِن أهل العِراق، فبعد قتلهم لأميرها عبد الله بن خباب، ورسوله إليهم الحارث بن مُرَّة العبدي كلف بالسفارة إليهم «رجلاً من يهود السَّواد»، ومعلوم أن السَّواد يعني العراق. والسبب معروف لأن الخوارج يعتبرون خصومهم كفاراً، حتى وإن كان علي بن أبي طالب نفسه، ولكن ليس لديهم مشكلة مع غير المسلمين، المعترف بهم.
أما مراجع آخرون، وهم الكُثر، فالخمس يُجمع لديهم، ويصرف منه على طلبة الحوزة، وفتح مراكز دينية أو خدمية، وتظل إدارته في ذريتهم، والشَّواهد على هذا كثيرة. فهذه الفريضة المالية، مثلما تقدم، تُدعى بالحقوق، أو سهم الإمام، وبما أنه لا توجد غزوات أي جهاد بدائي، فليس هناك غنائم كي تُخمس، إنما تؤخذ مِن «أرباح المكاسب»، لكن بعض فقهاء الإمامية لا يقرون خمس المكاسب(كمال الحيدري مثلاً). وتأتي من بلدان متباعدة، فالمُقلد لا تمنعه حدود الجغرافيا، أو الوطنية، مِن دفع خمس ماله لمرجع أجنبي، تأتي من الهند وباكستان والصين ومِن أي بلد آخر، وهو مقيم بالنَّجف أو قُمّ. هنا تكمن الخطورة إذا كان هذا التقليد حزبياً وسياسياً.
لكن الغريب في الأمر أن هذه الحقوق، التي يدفعها المُقلدون للمراجع، أتضح أنها تُصرف على العمل الحزبي، وأن الصَّدر، حسب الزهيري، وجد لها ما يُحلل صرفها في هذا المجال، فالمُقلد، الذي يدفع مِن ماله لا يشترط على المرجع أين يصرفها، يدفعها تلبية لفريضة دينية، لكن بالتأكيد مَن له موقف مِن جمع الدين والسياسة قد يتردد في دفعها، والأمر كما أسلفنا ليس مشهوراً، ولولا اعتراف الزِّهيري لظل سراً.
على كل حال، للمراجع اجتهاداتهم، مع أن السواد الأعظم منهم لا يُقر العمل الحزبي والسِّياسي بشكل مِن الأشكال، وبهذه القضية اجتهد الصَّدر، وربَّما قاسها على أخذها في زمن الأئمة وسفرائهم الأربعة، على اعتقاد أنهم كانوا يصرفونها في العمل السِّياسي، مثلما كان يفعل العباسيون في ثورتهم على الأمويين.
ومن المعلوم أن الحزبيين الإسلاميين في العراق اليوم يحاولون إيجاد ما يؤكد أن الأئمة كانوا أهل تنظيم حزبي، وبذلك يُصرف الخمس على هذا العمل، مع تأكيد الآخرين، أنهم كانوا أهل فقه لا سياسة، وبهذا يكون ما قاله الشَّهرستاني(ت 548هـ) في جعفر الصَّادق(ت148هـ) أقرب إلى التصديق: «ما تعرض للإمامة قط، ولا نازع أحدًا في الخلافة، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط»(الملل والنِّحل).