Skip to main content

ابن ماركيز يروي أسرار والده

ماركيز
AvaToday caption
آثر المغامرة بتدوين يوميات الأيام التي عاشها، يتأمل اكتمال والده بالموت، ناظراً في صور تعامله مع الماضي الذي ظل يلعب دوراً في حياته الواعية
posted onDecember 1, 2022
nocomment

في واحدة من حواراته المهمة قال الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارثيا ماركيز الحائز جائزة نوبل: "إن من بين الأمور التي يكرهها في الموت أنه سيكون الجانب الوحيد من حياته الذي لن يتمكن من الكتابة عنه، لأن كل شيء عاشه وشهده وجد مكاناً في كتبه إما مرمزاً أو مدسوساً في قصة".

ومن بين الكتب الكثيرة التي وضعت عن حياته وأدبه، يكتسب الكتاب الذي ألفه ابنه رودريغو غارثيا أهمية خاصة، ليس فقط لأنه يروي قصة الأيام الأخيرة في حياة صاحب "مائة عام من العزلة" أو في حياة زوجته مرسيدس التي لعبت دوراً كبيراً في حياة زوجها، وإنما لأنه مكتوب انطلاقاً من مساحة إنسانية فريدة تخص الفضاء العائلي الذي كثيراً ما تحدث ماركيز عن تأثيره في إبداعه.

من جهة أخرى لا تكمن ميزة الكتاب في مقاربة هذا الفضاء وحده، بل في ابتكار طريقة للمعالجة السردية تجمع بين تقنيات السرد السينمائي الوثائقي، وهو مجال عمل الابن، وبين السرد القصصي الذي حول الأيام الأخيرة في حياة ماركيز بين يدي رودريغو، إلى نواة لعمل روائي محبوك يقوم على كسر الزمن وملء فراغاته بكثير من التشويق والتلاعب بالحكايات التي تجمع فضاءات زمنية ومكانية مختلفة، بعد أن تفرقت العائلة في عواصم عدة.

ومع صدور ترجمة عربية مميزة للكتاب عن دار أثر السعودية بتوقيع المترجم المصري المتميز أحمد شافعي، سيكون باستطاعة القارئ العربي الدخول للمرة الأولى إلى بيت صاحب "الجنرال في متاهته" والتلصص على لحظات انسحابه، كمن يقف معه في البرزخ ما بين الموت والحياة، فضلاً عن التعاطي مع خرفه كمادة غرائبية لم يتمكن من تأليفها لأنه عاشها وهو على وشك المغادرة.

اعتقد ماركيز بأنه لا يستطيع كتابة عمل طويل بعد أن تجاوز الـ80، لأن دماغ المرء في الشيخوخة لا يستطيع أن يسيطر على المعمار الهائل الذي يتطلبه أي عمل كبير.

انطلق الابن في كتابه الممتع من لحظة الإيمان بأن الكتابة عن موت الأحباب قديمة قدم الكتابة ذاتها، لكنه آثر المغامرة بتدوين يوميات الأيام التي عاشها، يتأمل اكتمال والده بالموت، ناظراً في صور تعامله مع الماضي الذي ظل يلعب دوراً في حياته الواعية، كما لم ينفض أبداً يده من المستقبل إلى أن مات.

يبدأ الكتاب من وعد أخذه ماركيز من ولديه، يبدو أقرب ما يكون إلى وصية، طلب فيها منهما أن يكونا إلى جواره حين تهل الألفية الثالثة. أراد وقتها تأمل حياته عندما يبلغ في الـ73، لكنه بعد أن بلغ الـ80 قال: "المشهد مدهش لكن النهاية قريبة".

يسرد رودريغو الساعات الأخيرة في حياة والده في مارس (أذار) 2014 وكيف دعته والدته إلى الحضور من باريس والمجيء إلى حيث بيت العائلة في مكسيكو سيتي، قبل أن ينتقل الوالد إلى المستشفى بصحبة الابن الثاني الذي فوجئ، أثناء تسجيل المريض، بأن الموظفة تريد إبلاغ شقيقة زوجها بأن ماركيز صار بعهدتها.

وعلى رغم نجاح الابن في الحصول لوالده على غرفة معزولة نسبياً، إلا أن العالم كله عرف بالخبر قبل أن ينتهي اليوم الأول، فتحول مرض الأب بعدها إلى "شأن عالمي" وليس شأناً عائلياً.

مع تدهور الحالة نصح الأطباء بالابتعاد عن المستشفى والبقاء في البيت، تيسيراً على الجميع، لأن الموت قد اقترب وفي كل تلك الأوقات العصيبة عملت الصحافة "بلا حياء" للحصول على خبر ينتظره العالم. ومن المفارقات أن إعلان خبر الموت قد تأخر، بل لم يجد من يسمعه بالفعل، لأنه حدث خلال عطلة "خميس العهد"، وتبينت ساعتذاك، صعوبة الوصول إلى المنصات الإخبارية في البلاد الكاثوليكية، فدورة الأخبار بطيئة بسبب الكريسماس (عيد الميلاد) ومن ثم كان الجميع في عطلة.

خلال غيبوبة المرض فقد ماركيز ذاكرته وشعر بصعوبة ذلك إذ ظل يكرر "إنني أعمل بذاكرتي، الذاكرة أداتي وخامتي، لا يمكنني العمل في غيابها، ساعدوني".

ومع ذلك ظل يتذكر نغمات الأغنيات التي أحبها ويدندنها في أقسى الأوقات التي عاشها مريضاً، فقد  كان معجباً بمقدرة كتاب الأغنيات على قول كثير، وبغاية البلاغة في قليل جداً من الكلمات.

وطوال أوقات كثيرة كان يقف صامتاً أمام الشرفة، وحين تسأله الممرضة عما يفعل يقول: "أنا أبكي  لكن بلا دموع. ألا تدركين أن رأسي هباء". وفي تلك اللحظات بالذات كان يريد العودة للبقاء مع والده، لكن الابن يعتقد أن الأب المقصود هو جده الكولونيل الذي عاش معه حتى بلغ الثامنة وألهمه شخصية الكولونيل أورليانو بوينديا. وهو الذي يتذكر في "مائة عام من العزلة" أمام فصيل الإعدام، عصر ذلك اليوم البعيد، الذي اصطحبه فيه أبوه، كي يتعرف على الجليد، وقت أن كانت ماكوندو يومئذ قرية صغيرة.

هكذا بدأ ماركيز روايته الرائدة ونظر بعدها إلى كل كتاباته كتجارب من أجل الاستعداد لـ "مئة عامة من العزلة".

تتمدد صور الموت داخل الكتاب ليصبح موضوعه الوحيد، إلا أن الكاتب يستطيع بناء مفارقات وطرائف كانت تبلل تلك اللحظات القاسية ومنها علاقة غابو بزوجته مرسيدس بارتشا التي ظل يحدثها ويتعرف عليها، ما خلا الساعات التي عاشها خرفاً، وكانت تدفعها للهجوم عليه وانتقاده أمام أفراد العائلة. لكنها ظلت دائماً امراة محبة وقادرة على اتخاذ زمام المبادرة، فهي التي أنقذت مسودات أعماله غير المكتملة، وهي التي نصحت الابن بالاستعداد جيداً عندما اقترب الموت من زوجها قائلة: "الوضع، سيكون أشبه بحديقة حيوانات"، متوقعة رد فعل القراء وأفراد العائلة وممثلي وسائل الإعلام في العالم. ومن المفارقات المؤلمة التي يرصدها الكتاب أن مرسيدس ذاتها ماتت في صمت خلال فترة جائحة الكورونا (أغسطس 2020) ومن دون أن تجد حولها أي فرد من أفراد عائلتها.

يسلط الكتاب الضوء على العادات التي كانت في حياة ماركيز، ومنها القراءة بنهم، إلى جانب الحرص على القيلولة ورواية أحلامه لمن حوله.

يشير رودريغو إلى أن والده أنكر وجود رمزية في كتاباته، وازدرى أي نظريات أكاديمية حاولت إلقاء الضوء على المجاز في أدبه وظل يرتاب منها كلها. ومع ذلك فإنه كان يعرف أنه عبد للعقل الباطن، وهو مثل كثير من الكتاب، مهووس بالفقد وتجلياته الفادحة وبالتعامل مع الموت بوصفه نظاماً وانتفاء للنظام، بوصفه حتماً وبوصفه مرفوضاً.

في مواضع كثيرة يفخر الابن بخيال الأب ذي الخصوبة الفاتنة وبقدراته الإبداعية الفذة، ضارباً المثل بنجاحه في متابعة مصير ستة أجيال في "مئة عام من العزلة"، وقدرته على الحذف منها، لأن إحدى مهاراته جاءت من الانضباط الهائل، بخاصة حين كان الأمر يتطلب تأطير قالب الحكاية أو رسم حدودها. فقد آمن بألا بديل أمام الروائي عن وضع مسودة لخريطة طريق صارمة، بغية اجتياز ما سماه بـ"أصقاع الرواية المخاتلة".

من أهم النقاط التي يثيرها الكتاب، المرجعية التي استند لها في بناء عالمه، وكان دأبه الدائم هو أن يرجع الشيء إلى ثقافته هو، فلم ترهبه أبداً الإحالات ذات المركزية الأوروبية، التي كانت شائعة في كل مكان. فهو كان يعلم أن الفن العظيم قادر على أن يزدهر في عمارة سكنية في كيوتو اليابانية أو داخل بيت ريفي في الميسيسبي. وكانت لديه قناعة بأن أي ركن ناء في أميركا اللاتينية قادر بقوة على تمثيل التجربة الإنسانية.

توفر مادة الكتاب للقارئ مساحات لاكتشاف الأحداث الحاسمة في حياة ماركيز التي ارتبطت بعيش أيام قبيحة، حتى في الفترات التي كانت عامرة بالثناء الأدبي العظيم والثروة والنفوذ، لكن أصعبها على الإطلاق جاء بعد فقد الرفاق أو تداعي الذاكرة وما رافقها من عجز عن الكتابة

أخيراً ينظر الكتاب بعمق في اللحظات الغائمة التي أعقبت إعلان خبر الموت، فهي اللحظات التي لا يمكن فيها السيطرة على أي انفعال، ولا يمنع الخجل والحرج أحداً من التعبير عن ألمه وحزنه أمام الآخرين. يتلاشى المحيط ويكون لكل شخص لقاؤه الفريد مع الميت ومع الحدث نفسه، وكأن الموت ملك مشاع، يظهر بصفته شيئاً لا بصفته انتفاء شيء، وهذا أمر تبعث رؤيته على الانتباه، فهو حدث لا يتقادم ولا يشيخ.