Skip to main content

النظام الإيراني بين السقوط والصمود

إبراهيم رئيسي وعلي خامنئي
AvaToday caption
إذا كان الإصلاح المستهدف بهذه الاحتجاجات (على افتراض تبلور معظمها في رؤية شبه مُوحَّدة) هو تغيير النظام ذاته ابتداء؛ فما هي حدود هذا التغيير؟ هل هو تغيير "الأشخاص" المتنفذين القائمين عليه
posted onNovember 22, 2022
nocomment

محمد المحمود

أصبح المشهد الإيراني الراهن يَشدّ انتباهَ المراقبين من شتى الاتجاهات الفكرية، فضلا عن ذوي الميول السياسية؛ ليقرأ كلٌّ منهم المشهدَ الساخن وِفْقَ رغباته وميوله وأمانيه؛ لا وفقَ ما ينطق به المشهدُ ذاته؛ وَعْدا أو وَعيدا. وما هذا إلا لاعتقاد كلِّ مراقبٍ/ كلِّ قارئٍ أن "رَغْبَنَة قراءته" في هذا الاتجاه أو في ذاك الاتجاه المعاكس؛ من شأنها أن تدفع الاحداثَ باتجاه ما يُحَقِّق الرغبات والأماني على مستوى الواقع.  

إن هذه القراءات الرغبوية هي ـ في تصوّر أصحابها؛ واعين أو غير واعين ـ قراءات تحفيزٍ وتأييدٍ ودعمٍ (للسلطة الإيرانية، أو ضدها: للمحتجين عليها)؛ لا قراءةَ فَهْمٍ، واسْتِبْصارٍ، واستشرافٍ للمستقبل القريب أو البعيد. فقبل أن يقرأ/ يرصد/ يُحلّل؛ نجده يُقرِّر: مع أو ضد، وعلى ضوء القرار يكون "التحليل".

وفي المقابل، وبدرجة ثانية/ تالية، فإن مَن يقرأ هذه القراءة/ الرصد/ التحليل، يكون قد حدّد موقفه سلفا: مع أو ضد. وفي الغالب، لا يقرأ القارئ هنا ـ قراءةَ قناعةٍ ـ إلا لأؤلئك الذين يوافقونه في الرغبات والأماني الحالمة، وقبل ذلك وبعده، في المُسْتَهْدَفِ الايديولوجي العام

نتقدم بهذا ابتداء؛ لأن "القراءات الرغبوية المُضَلِّلة" قد طغت على معظم المُقارَبات التحليلية لِمَشْهَد الاحتجاجات الغاضبة في إيران. ولهذا، بدل أن تكون هذه القراءات التحليلية توطئة للفهم، أصبحت رُكاما عبثيا لا ينتج إلا مزيدا من سوء الفهم. فنحن نجد الأحداثَ في هذه القراءات تُحال إلى غير دوافعها، ويُسْتهدف بها غير مُسْتَهدفَاتها، ويجري تهوينها أو تهويلها؛ وفق الرغبات والميول، لا وفق حقائقها؛ تلك الحقائق المعتبرة؛ سواء في "وقائعية الحدث" أو في "وَاقعِ وَعْي" المَعْنِيّين بها أساسا من جماهير الشعب الإيراني.

على أية حال، المشهد يحكي ـ بحياد موضوعي أولي ـ أن ثمة أحداثَ عُنْفٍ مُتَفرّقة: عنف سلطوي، وعنف جماهيري، وكلاهما عنف متصاعد في العموم؛ حتى وإن خضع لتموّجات انكفائية ظرفية في الزمان أو في الكان. وعلى اختلاف مستويات الاحتجاج وتنوعها، فإن المعنى المُشْتَرَك فيها أنها في مواجهة السلطة القائمة، وأنها حالة غضب شبه عام من سياسة النظام؛ تختلف في درجتها، وإن لم تختلف في يأسها من الإصلاح؛ حتى على يد دُعاة الإصلاح من داخل النظام (=التيار الإصلاحي داخل النظام الأصولي).

مع هذا، يبقى سؤال محوري هنا: هل هذه الاحتجاجات في منطقها العام (بعيدا عن الاستثناءات الهامشية) تُطالِب بـ"التغيير/ الإصلاح" من داخل النظام، أم هي تطالب بتغيير النظام ذاته؛ كشرط أولي/ أساسي للإصلاح؟

ثم إذا كان الإصلاح المستهدف بهذه الاحتجاجات (على افتراض تبلور معظمها في رؤية شبه مُوحَّدة) هو تغيير النظام ذاته ابتداء؛ فما هي حدود هذا التغيير؟ هل هو تغيير "الأشخاص" المتنفذين القائمين عليه؟ وفي حال تغييرهم؛ هل يجري استبدالهم بغيرهم من الايديولوجيا ذاتها أم من غيرها؛ مما هو قريب أم مما هو بعيد منها؟ وفي حال كان منها؛ فما حدود الاختلاف مع الأشخاص السابقين؟ وفي حال كان من غيرها؛ فما هي حدود الاختلاف معها/ مع الايديولوجيا؟ ثم، في حدود هذا التغيير المأمول أو ذاك؛ كيف يُمكن أن يشتغل "التغيير المستهدف"؛ مع بقاء الهياكل التنظيمية والتشريعية على ما هي عليه؟

أما في حال استهداف تغيير النظام من أساسه، بهياكله التنظيمية والتشريعية وبمنحاه الايديولوجي العام؛ فإلى أي مدى/ أي عمق سيكون الاجتثاث؟ طبعا، على اعتبار أن كل مستويات الاجتثاث ممكنة واقعيا/ عمليا، وأنها لن تُواجِها أشرس القوى المضادة بمستوى تصميمها، وربما بما هو أكثر، وبقدرات أعلى، أي بقدرات متنوعة (معنوية ومادية) تراكمت للحساب النظام القائم على مدى خمسة وثلاثين عاما!

إذن، مستويات الاحتجاج ـ على افتراض توحّد الرؤية فيها نسبيا ـ درجات، وأيضا مستهدفاته درجات. وفي حال التوافق على إسقاط النظام، فإن هذا "الإسقاط" درجات أيضا؛ يصعب، بل يستحيل التوافق عليها في صفوف المحتجين الغاضبين المنتمين إلى تيارات وجماعات ومذاهب وأعراق متنوعة، بل ومختلفة ـ فيما بينها ـ كثيرا. وبالتالي، فإن عدم وضوح الرؤية (عدم توحّدها النسبي) يجعل من خيارات التغيير ـ بكل مستوياتها الحادّة ـ خياراتٍ غيرَ واقعية، وتحديدا تلك الخيارات التي تتغيا ـ بمجملها ـ إجراء مُتَحَوِّلٍ نَوْعي على النظام؛ بنقله من هويته الثيوقراطية الصريحة إلى مسارات الفضاء العلماني الصريح.

مع هذا، إذا كان ضغطُ الغضب الجماهيري الواسع سيدفع النظام الثيوقراطي الحاكم باتجاه إصلاحات ذات بُعد تصالحي ـ وإن لم يكن صريحا في الغالب ـ مع الحداثة، فالمتوقع أن تكون هذه الإصلاحات ـ في تخطيط عَرَّابيها ـ داعمةً لتثبيت قواعد النظام في مستوى آليات التحكّم الخشنة، في الوقت نفسه الذي تُظْهِر فيه قَدْرًا مَحْسُوبا من الانفتاح

وهنا تأتي الأسئلة الإشكالية أو المُؤَشْكَلة: هل هذا الانفتاح النسبي المتوقّع (= الإصلاحات الداعمة لتثبيت قواعد النظام)، يعني ـ من جملة ما يعني ـ سقوط النظام الثيوقراطي بدرجة ما؟ أي التنازل عن جوهر المشروع الذي نهضت عليه مشروعية النظام أساسا؛ لصالح بقاء القائمين كأمناء روحانيين على استمرارية المشروع؟ ألا يعني هذا الدخول في دور عبثي؛ تنتهي مُتَتالياته ـ لا محالة ـ بالإعلان على "فشل التجربة الأصولية" صراحة أو ضمنا؟

وهل هذا الفشل هو ذات "سقوط النظام" الذي يُراهِن عليه المحتجون أو ـ على الأقل ـ يراهن عليه غالبية المُحْتجّين على النظام؟

بلا شك، هناك مقومات داعمة للصمود، كما أن هناك مقومات داعمة للسقوط. وبالنسبة لمقومات السقوط بالمستوى المذكور آنفا، فإنها ترجع ـ في تصوري ـ إلى أربعة أنواع:

1ـ فشل الايديولوجيا الدينية (= الإسلام السياسي عامة) في تحقيق وعودها. فإذا كانت حقّقت بعض النجاحات في بعض الأماكن، فليست بالحد الأدنى من المقبول به في سياق الوعد الحضاري الذي راهنت عليه، أو أن الوفاء للايديولوجيا ليس مُتَحقِّقا فيها بالحد الأدنى المقبول به في سياق الصراع الهوياتي (والذي هو في جوهره ديني) بين ثنائية: الأصالة والمعاصرة.

2ـ الطبقات الاجتماعية المُهَمَّشَة أو المُتَهَمِّشَة. فإذا كانت مشاريع النظام قد نهضت بعشرات الملايين من مستنقع العطالة المادية أو المعنوية، فإنها أيضا قد فشلت في النهوض بعشرات الملايين. ولهذا تفاصيل وهوامش ليس هذا مجال مناقشتها وتحقيقها.

3ـ الرتابة والملل. فالنظام الإيراني بعد عَشْرِيّة الثورة المُتْخمة بالوعود الكبرى/ اللاواقعية، دخل ـ وعلى مدى ثلاثة وثلاثين عاما ـ في حالة ركود رتيب، عاجز عن مواصلة الثورة، وعاجز أيضا عن الوفاء لاستحقاقات الاستقرار في مجال التنمية خصوصا، وكأنه قد أصبح لا يطمح بأكثر من تماسكه كنظام حاكم؛ في صراعه المحلي والإقليمي والدولي.

4ـ الحريات العامة المقموعة. وهذا أخطر المقومات المُحَفِّزة للسقوط في  الاحتجاجات الراهنة. وما رمزية نزع الحجاب هنا إلا إشارة لمحورية أسئلة الحرية في مثل هذه الاحتجاجات. فالتأطير الديني المُمْتَد لأكثر من أربعين عاما، والمُنْتَظم لمجمل الأنظمة العامة المتعلقة بالحريات الشخصية، خلقت حالة نفور مُتَصَاعِد عند الأغلبية، خاصة من الشباب الذكي الإيراني المنفتح ـ إعلاميا وتواصليا ـ مع العالم.

هذه هي أهم "مُقَوِّمات السقوط" في تصوري. وأما "مُقَوّمات الصمود" فهي موضوع المقال القادم.