Skip to main content

ماياكوفسكي يحتفل بالثورة البلشفية بعمل ساخر

رسوم خطها ماياكوفسكي
AvaToday caption
فالصراع صراع ولا يوقفه شيء. ومن هنا عاد التفاوت الطبقي يعلو على أي مصالح أخرى، بل تمثل في تفاقم القدر الأكبر من الأنانية وإيثار الذات، لا سيما لدى "الأنقياء" الذين وجدوا من الطبيعي لهم أن يضعوا "النجسين" في خدمتهم من دون أن ينال هؤلاء أي مكافأة
posted onJuly 11, 2022
nocomment

كان المطلوب في المقام الأول تقديم عرض مسرحي يحتفل بالذكرى السنوية الأولى لانتصار الثورة البلشفية في العام 1918. فشمر الكاتب والشاعر المستقبلي الطليعي فلاديمير ماياكوفسكي، الذي كان نجم النجوم في ذلك الزمن، عن أكمامه واستعار من التوراة حكاية الطوفان ليجعلها كناية عن حكاية الثورة في عالم جديد تخيله مغموراً بالمياه بحيث لم يعد قابلاً للسكن. وتخيل قلة من أناس تمكنوا من الوصول إلى القطب الشمالي وعليهم الآن أن يبحثوا عن طريقة ومكان يبنون فيه عالمهم الجديد هذا، مكان يحويهم ليبنوا فيه العالم الجديد ويصلون إليه بالفعل في نهاية المطاف بواسطة سفينة تتسع لأزواج قليلة منهم. وإذ أنجز ماياكوفسكي ذلك النص شرع من فوره في إنتاجه وقد تم اختيار فسيفولد مايرهولد لإدارة الإنتاج والإخراج وكازيمير ماليفتش للديكور والأزياء، كما تمت الاستعانة بكبار ممثلي المرحلة ليكون العرض الأول ناجحاً وصاخباً في نوفمبر (تشرين الثاني) 1918 تماماً يوم الاحتفال.

بدا كل شيء على ما يرام، ولكن بعد أن "راحت السكرة وعادت الفكرة" كما يقال، تساءل مسؤولون عما يعنيه الكاتب بجعل الخلاص يصل بالناجين من الطوفان إلى مدينة معدنية "أميركية" السمات وليس إلى موسكو. وهكذا بات لا بد من كتابة المسرحية من جديد في نسخة "مصححة" قدمت في العام 1921 في موسكو هذه المرة. ومع ذلك على الرغم من النجاح المتجدد ظلت الأسئلة حائرة بصدد ما أراد الشاعر المشاكس أن يقول في عمل بات من الواضح أنه لا يقل مشاكسة عن صاحبه.

بالنسبة إلى ماياكوفسكي لم يفته أن يشرح أنه إنما يقدم هنا مسرحية "رمزية" حول الصراعات الطبقية وانتصار الثورة (الطوفان) مستعيناً بالهزل والموسيقى والسخرية والأسطورة وكل ما يخطر في البال من عناصر. وغايته واحدة: أن يمجد الثورة، ولكن كيف؟ ببساطة، قال، بتصوير الصراع الدائم بين المضطهدين ومن يضطهدونهم، بين الأغنياء والفقراء، بين العمال وأصحاب العمل. وهو من أجل ذلك جمع سبعة أزواج من كل فئة. أربعة عشر إنساناً "نقياً"، رأسمالياً يعتبر نفسه "نقياً" بالطبع، وأربعة عشر عاملاً من "النجسين"، أي الذين يعتبرهم "الأنقياء" نجسين، وهم عامل سكك حديدية وعامل مصنع وفلاح وعامل منجم وما إلى ذلك، بينما جعل الأنقياء مهاراجا هندياً ونجاشياً حبشياً ورأسمالياً أميركياً وما إلى ذلك. وفي البداية وإذ كانوا جميعاً قد جمعوا على متن المركب كل ما كانوا قد حصلوا عليه من مؤن واحتياجات أخرى، يتخذ "الأنقياء" قرارهم بأن يكونوا هم، المستفيدين الوحيدين من تلك المؤن و"ليدبر النجسون أمورهم كما يشاؤون!"، وذلك على الرغم من أن الوضع يحتم عليهم أن يتجمعوا ويتصالحوا في المكان النائي والموحش الذي أوصلهم إليه الفلك أول الأمر حتى يتمكنوا من متابعة الرحلة حيث الخلاص.

فالصراع صراع ولا يوقفه شيء. ومن هنا عاد التفاوت الطبقي يعلو على أي مصالح أخرى، بل تمثل في تفاقم القدر الأكبر من الأنانية وإيثار الذات، لا سيما لدى "الأنقياء" الذين وجدوا من الطبيعي لهم أن يضعوا "النجسين" في خدمتهم من دون أن ينال هؤلاء أي مكافأة، بالتالي كان لا بد فيما هم جميعاً يصنعون الفلك الثاني - بعد تحطم الأول – أي يتولى الأنقياء التنظير وقيادة دفة الأعمال وهم يراقبون ما يحدث، فيما يقوم "النجسون بالأعمال الشاقة، أولاً بالطبع لكونهم اعتادوا على العمل ويتقنونه بمهرة، ولكن بعد ذلك، وكما يشير "الأنقياء"، لأن ذلك من "طبيعة الأمور إلى كذلك؟".

والحال أن "الأنقياء" كانوا كالعادة قد تسلموا تسيير الأمور بقيادة النجاشي الذي تم انتخابه، ديمقراطياً، ولكن من قبل "الأنقياء" وحدهم لأنهم مخولون بالاقتراع بينما يكتفي النجسون بالعمل كالعادة.

ولكن ذات لحظة يتساءل "النجسون" وقد أضناهم العمل وحدهم كما أضناهم الجوع، يتساءلون عما يجبرهم الآن، على الخضوع لإرادة "الأنقياء" الذين لم يعد ثمة ما يحميهم أو من يدافع عنهم.

إن ما يحدث في تلك اللحظة، بحسب ماياكوفسكي، إنما هو ظهور الوعي "ولو متأخراً" في صفوف أولئك الذين كانوا قد ارتضوا أول الأمر أن يعتبروا "نجسين" من دون أن يفهموا ما الذي يجبرهم الآن على قبول ذلك. وهكذا بالتالي، يستشرس "النجسون" ويلقون سادة العالم القدامى هؤلاء من على ظهر الفلك متخلصين منهم ليواصلوا رحلة الخلاص التي، وكما أشرنا، تقودهم إلى مدينة "أميركية" مبنية من المعدن الخالص، لكنها لا تقودهم إليها مباشرة، بل بعد المرور بالعديد من "المناطق" الأخرى التي من الواضح أن ماياكوفسكي لم يضعها هنا على سبيل التسلية، بل للإمعان في لعبة الاستفزاز وقد خيل إليه أن "انتصار الثورة البلشفية" التي ناضل إلى جانبها معتقداً أن التثوير يطاول الآن كل شيء يجب أن يقلب العالم رأساً على عقب وبالشكل الذي يمكن للحالمين، لا سيما الشعراء بينهم أن يتصوروه.

ومن هنا وبعد أن يشاهد "النجسون"، الذين لم يعودوا كذلك الآن، رجلاً يمشي فوق الماء، يهيب بهم هذا وقد عرفوا فيه "الإنسان العادي" أن يصعدوا إلى ما فوق الغيوم وقد أكد لهم أن الفردوس والجحيم لا يوجدان إلا داخل الرؤوس، وهناك سيلتقون العالم الجديد. وإذ يقود العمال الفلك أول الأمر إلى حيث دلهم الرجل يفاجأون بأن يجدوا أنفسهم في الجحيم، لكنهم هناك سرعان ما يتداركون الأمر إلى درجة أنهم يرعبون الشياطين حين يحكون لهؤلاء قصصاً تشيب لهولها الرؤوس حول العذابات التي كانت من نصيبهم على الأرض.

وبعد الجحيم يكون عبور الفلك براكبيه لمنطقة يتعرفون فيها إلى الفردوس. ويدهشهم هناك لقاؤهم ماتوسالم وجان جاك روسو وتولستوي، فيستمدون من هؤلاء أفكاراً جديدة تريح أعصابهم وهم متوجهون الآن إلى الأرض من جديد، ولكن ليس إلى أي أرض، بل تحديداً إلى تلك المدينة شديدة الحداثة والترتيب على النمط الأميركي. المدينة التي تبرق جدرانها المعدنية بريقاً رائعاً، ومن الواضح أن الكاتب يريد منها أن ترمز إلى الشيوعية المظفرة.

مهما يكن من أمر نعرف أن ماياكوفسكي في التقديم التالي لهذه المسرحية التي نظر إليها كثر باعتبارها عملاً طليعياً مستقبلياً ينتمي إلى إبداعات "الآجيتبروب"، أي إلى تلك الابتكارات الفنية التي أراد المبدعون من خلالها التعبير عن وقوفهم إلى جانب التغييرات الثورية التي عصفت ببلادهم وبالعالم، في التقديم التالي خفف من غلوائه ومن "كوزموبوليته" بحيث لم يعد العالم الجديد الذي يصل "النجسون" إليه أميركي السمات بل بات موسكوفياً خالصاً.

بيد أن ذلك الإذعان لن يمر مرور الكرام لدى الكاتب بل ترك عنده انطباعاً كبيراً بالخيبة سيرافقه منذ ذلك الحين، بل يتعاظم لديه، لا سيما مع مجيء ستالين إلى السلطة وبدء هذه بتشديد الرقابة على المبدعين أكثر وأكثر كي يغادروا طليعيتهم وينضووا في السياق العام للأدب الحزبي. ونعرف أن هذا قد أودى بماياكوفسكي إلى وهدة اليأس، لا سيما في آخر العقد حين كتب مسرحيتيه الأكثر مشاكسة على الضد من البيروقراطية الحزبية، "البقة" (1929) ثم "الحمامات" (1930) لينتحر بعدهما. وطبعاً تقول الحكاية إن فلاديمير ماياكوفسكي (1893 – 1930) أقدم على الانتحار جراء حكاية حب فاشلة عاشها آخر سنوات حياته، لكن الحقيقة تكمن بالتأكيد في مكان آخر علينا أن نبحث عنه في ثنايا كتاباته التي راحت حماستها الثورية تتضاءل بمقدار ما يتحول الحكم من "ثوري" إلى "ديكتاتوري"، من دون أن ننسى أن انتحار صاحب "ميستري بوف" إنما جاء في سياق انتحارات عدة أقدم عليها كتاب وفنانون روس كانوا قد عاشوا حماسة كبيرة يوم حملت لهم الثورة البلشفية آمالاً كباراً، فخابت وانتحروا حين عجزوا عن سلوك المنافي التي كان سلكها زملاء لهم كانوا أكثر حظاً منهم.