علي الصراف
“التطبيع” مفردة دائما ما كانت تنطوي على معنيين اثنين. الأول، هو الخوف من الإسرائيلي، بل ومن كل يهودي على وجه الأرض، “خبط لزق”. والثاني، هو الخيانة والعمالة وما إلى ذلك من معاني التجريم.
أما الخوف، فهو يعني أنه إذا كان لديك جار يهودي وقلت له “صباح الخير”، فلسوف تصيبك من جوابه “صباح النور” لوثة من لوثات التطبيع. وذلك على الرغم من أن هناك يهودا كانوا أخلص للقضية الفلسطينية من بعض الفلسطينيين.
أوري ديفيس، واحد من أمثلة كثيرة، ليهود ناضلوا دفاعا عن القضية الفلسطينية، ووجدوا فيها انتماء للإنسانية وليس لفلسطين وحدها. ولو كان الذين مَنْ هم على عكسه أكثر.
هذا الرجل عضو في حركة فتح منذ العام 1984، وعضو مجلسها الثوري، وقيادي بارز في منظمة التحرير الفلسطينية، ويقول: “أنا أحمل الجنسيتين الإسرائيلية والبريطانية، لكني أعتبر نفسي فلسطينيا قبل أي شيء”.
معظم الذين انضموا إلى حركات وقوى اليسار الإسرائيلي ظل فيهم شيء من ديفيس. وكذلك الذين يعملون في منظمة “بتسليم” (مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة) التي أسسها الراحل يوسي ساريد، وسبقت كل المنظمات الحقوقية الدولية بإدانة نظام “الأبارتهايد” الإسرائيلي بتسميته بهذا الاسم الموحي بالذات.
إيران، بالإحصاءات المجردة، ارتكبت بنا من الجرائم في العراق وحده، ما لم ترتكبه إسرائيل في فلسطين. دع عنك سوريا واليمن والمآسي القائمة في لبنان.
الحكم عادة ما يصدر من دون تفاصيل ولا حاجة للتدقيق، لأننا كنا نتخذ من التهمة نوعا من الإجراء الدفاعي عن القضية الفلسطينية يوم كانت تعوزنا الإجراءات الدفاعية الأخرى، الأفضل والأكثر فاعلية.وأما التخوين، فهو عدا عن كونه اتهاما قائما على افتراضات ترى أنك تتخلى عن الحقوق الوطنية المشروعة للفلسطينيين، لمجرد أنك تلتقي بإسرائيلي لأي سبب كان، فإنه كان تعبيرا أيضا عن فقدان الثقة بالنفس، وتعبيرا عن خذلان مسبق فيها. بمعنى أن أي لقاء من هذا النوع، هو بحد ذاته اعتراف بإسرائيل، كما أنه بحد ذاته أيضا تعبير عن استعدادك لتقديم التنازلات. وحتى إذا لم تقدمها، فإن الخيانة والاستعداد لها قائمان فيك.
وبينما ظل الثوريون الفلسطينيون يعتبرون “الاعتراف بوجود إسرائيل” جريمة نكراء. فقد انتهوا إلى الاعتراف بها، هم أنفسهم. وبينما كان الحبيب بورقيبة خائنا عندما دعا الفلسطينيين إلى القبول ببناء دولة على أراضي العام 1967، فقد أصبحت تلك “الجريمة النكراء” حلما لا تطاله اليد.
التفسيرات والتبريرات كثيرة طبعا. ولكنها لم تنج من حقيقة أن الموقف من “التطبيع” كان ساذجا وسطحيا وعاجزا عن التمييز بين الألوان. هذا من قبل من أن يكون للاعتراف بـ”الواقع” أي تأثير. ومن قبل أن نعرف من سوء العداء، ما لم نعرفه من إسرائيل.
قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم في أغسطس عام 1967 (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض)، كانت رد فعل على هزيمة الخامس من يونيو في ذلك العام. وظروفها لم تكن لتسمح بأي شيء أقل من الانفعالات الصاخبة، للحؤول دون مساءلة النفس عن أسباب الهزيمة. ولقد كانت هروبا إلى الأمام لمَنْ لا يملك سبلا لتصويب الفشل.
هذا الفشل، الذي دام لنحو نصف قرن لاحق، هو الذي انتهى إلى “صلح واعتراف وتفاوض”، وكأن الأقدار أرادت أن تعلم الفاشلين درسا في أنهم ظلوا يُخطئون التقدير حتى انتهوا إلى أن انقلبوا على أنفسهم، دونما وعي بأنهم يصنعون كارثة.
تخوين مصر عندما اختارت توقيع اتفاقات كامب ديفيد، أكلت من دهرنا نحو عشرين عاما، قبل أن نعترف بأنه “لا حرب من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا”. وأن الرئيس الراحل أنور السادات لم يكن خائنا لا لشعبه ولا للقضية الفلسطينية نفسها، التي أراد لها في رحلته إلى القدس، ما تريده منظمة التحرير الفلسطينية الآن، هي التي لم تُبق في تخوينه شيئا لم تقله. وكذلك فعل الثوريون، قبل أن يروا “الثورة” الإيرانية ماذا تعني.
أربعون عاما من “تصدير الثورة”، أي من الحروب وإنشاء الميليشيات والعمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة، غيرت الكثير في تشخيص مَنْ هو العدو ومَنْ الصديق، ومع مَنْ يجدر أو لا يجدر التطبيع.
إيران، بالإحصاءات المجردة، ارتكبت بنا من الجرائم في العراق وحده، ما لم ترتكبه إسرائيل في فلسطين. دع عنك سوريا واليمن والمآسي القائمة في لبنان.
لم يقتصر الأمر على قتل عشرات الآلاف من السُنة، لأنهم “أتباع يزيد”، ولا على هدم مدن بأسرها، ولا على تهجير الملايين، ولا “السيطرة على أربع عواصم”، ولا على حملات الاغتيالات، ولا على فساد تبددت به مئات المليارات، ولا على حروب أهلية يدوم أثرها لنصف قرن، ولكن على مآسي تجويع حتى أظلمت بالفقر والقهر ونقص الخدمات ملايين المنازل.
نصف الشعب السوري تشرد، بعزيمة من طهران وميليشياتها التي شدت بها عزائم الطغيان.
عندما تقارن، بعقل، ستعرف من هو العدو الذي تجاوز بأشواط طويلة ما فعل كل عدو آخر.
إسرائيل في نهاية المطاف “دولة”، يمكن أن تعاديها، كما يمكن أن تحاربها، أو أن تتفاوض معها، لتأخذ أو تعطي، ولكنها تظل في كل الأحوال دولة. بينما إيران ليست أكثر من كيان عصابة، لا حرب معها تكفي، ولا يتحقق معها سلام، ولا تصدق وعود، ولا تنفع مواثيق. وقد تقول شيئا وتفعل عكسه، وقد تنافق بالكلام المعسول، إلا أنها لن تتوقف عن إطلاق الصواريخ، أو تحريك غلمانها للانتقام منك، بعد كل اتفاق!
إسرائيل لا تريد “تصدير الثورة” أيضا إلى الجوار. بالكاد رضيت بسلام رسمي يوصف بأنه “بارد”. لأننا شعبيا ورسميا ما نزال نريد حلا عادلا للقضية الفلسطينية.
إسرائيل، جسم غريب، يريد أن يتطبع وأن يُقبل، وأن يلتقط قادته صورا مع قادتنا. بينما إيران جسم أصيل، ولكنه يريد أن يقتل ويهجر ويدمر ويفسد ويشن حروبا أهلية ويدفع إلى الفشل. وعقدة الجسم الأصيل أصعب وأعمق بكثير من عقد الجسم الغريب.
إسرائيل أقل حقدا علينا من إيران العصابة. أقل كراهية لنا عندما نقيم ناطحات سحاب. ولو نشبت حرب، فلن تهدد بضربها.
باختصار، لقد مضى وقت طويل، لنعلم أنه ليس كل “صباح الخير” تطبيع. وليس كل يهودي مجرم. وليس كل لقاء مع “مجرم” استعدادا لارتكاب جريمة. والتفاوض لا يكون، بحسب طبيعته، إلا بين الأعداء. وإن دولة عندما تتعامل مع دولة مثلها، ليست كمثل ما تتعامل مع عصابة. مع الدولة قد تتوصل إلى حلول وسط ومعاهدات ومواثيق. أما مع العصابة فلن تحصل إلا على غلمان عُضْرط – لئيم.
