لسبعين عاما أمضى المطرب السوري صباح فخري حياته "ناسكا متعبدا" بالطرب الذي نسي قلبه فيه وغنى من أجله وأغلق برحيله بابه أيضا. خاطب المليحة ذات الخمار الأسود مرارا. ارتوى من خمرتها وأطرب الملايين من سوريين وعرب بصوتٍ ستبقى ترانيمه لعقود طويلة.
فخري، الذي قلما يعرف السوريون أو العرب اسمه الحقيقي "صباح الدين أبو قوس"، يعد حالة استثنائية بحسب ما يقول نقاد، ومن الصعب أن تنجب سوريا شبيها له، من حيث غناء القدود الحلبية التي اشتهر ووسم اسمه بها، أو من ناحية الأجيال التي رافقته ورافقها، كبارا وصغارا.
بإيماءاته ووصلاته الفنية على المسرح لازم صوت "أبو قوس" حياة السوريين. ليس في حلب التي ولد فيها فحسب، بل في جميع المحافظات السورية، وكانت الحالة الاستثنائية الخاصة به جزءا لا يتجزأ من المشاعر والأحاسيس، التي لم تكن حكرا على ظرف دون غيره أو طبع وآخر. صوته وقدوده كانت حاضرة في الصباح والمساء. عند السفر وفي وقت الغياب والسهر.
ودون أي مقدمات، كتلك التي لم ينتظرها جمهوره عند سماع صوته، رحل صباح فخري صباح الثلاثاء عن عمر ناهز 88 عاما، أمضى القسم الأعظم منها في الفن الغنائي، حتى بات يلقب بـ"أبو كلثوم سوريا" و"قلعة حلب" التي لها تاريخ لا يموت.
أدى فخري باقة من أغاني حلب التراثية في العديد من المهرجانات العربية والدولية، إلى جانب أغان من قصائد أبو فراس الحمداني والمتنبي.
غنى لابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب. بالإضافة إلى تلحين قصائد لشعراء معاصرين مثل فؤاد اليازجي، وعمر أبو ريشة وفخري البارودي ومصطفى عكرمة.
ومن أشهر أغانيه: مالك يا حلوة مالك، وخمرة الحب اسقينيها، ويا طيرة طيري، وقدك المياس، ويا مال الشام، وأنا في سكرين من خمر وعين، وموشحات، يا شادي الألحان، وابعتلي جواب، وآه يا حلو وغيرها من الأغاني التي لاقت شعبية كبيرة داخل الأوساط السورية والعربية.
يقول الكاتب والناقد الفني، محمد منصور، إن "صباح فخري يمثل حالة استمرار طويلة في تاريخ الغناء السوري، وهذه الحالة للأسف لم يحظ بها إلا قلة قليلة من المطربين وأصحاب الأصوات الجميلة".
ويضيف منصور، أنه "جمع بين العمر المديد والمشوار الفني الطويل، وتربّع على قمة الهرم الغنائي السوري، وبالتالي مثل جزءا مهما من ذاكرة أكثر من جيل من أبناء سوريا والمنطقة العربية".
وبينما عاش لـ88 عاما، إلا أن فخري غنى لمدة سبعين عاما متواصلة، ويرى منصور أن "هذه الحالة من الاستمرارية كانت استثنائية في تاريخ الفن السوري، الذي كان يعاني من انقطاع التجارب، في تقلب العهود واختلاف الأمزجة وتبدّل السلطات الحاكمة".
وغنى صباح فخري منذ أربعينيات القرن العشرين و"اختصر بصوته تاريخ سوريا"، فعاش حلم الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، وأيضا مرحلة الانقلابات، وأدرك حكم البعث والأسدين لكنه استمر في كل العهود.
ويشير الناقد الفني محمد منصور: "لم يستطع أحد أن يقصيه بسبب إمكاناته الفنية الاستثنائية، وبسبب إخلاصه لفنه".
جال المطرب السوري الراحل في حفلاته عواصم عربية وأجنبية، وبأسلوبه الخاص والاستثنائي دخل صوته إلى قلوب الملايين، بينما أطربت رقصاته المعروفة باسم "السنبلة" على المسرح، الجمهور الذي قلما يفضل النمط الخاص بالقدود الحلبية.
ويصف كتاب "صباح فخري سيرة وتراث" المطرب السوري بأنه "قلعة حلب الثانية"، وتقول كاتبته شذا نصار إن عائلة صباح فخري "اكتشفت صوته لأول مرة عندما كان رضيعا".
ويروي الكتاب الوحيد الذي يستعرض مسيرة فخري في الفن الغنائي السوري أن "أحد أقربائه كان يتعمد إيقاظه عبر قرصه، لأنه يحب سماع صوته. حتى وهو يبكي فقد كانت لديه نغمة خاصة في البكاء".
وصقل صباح الدين أبو قوس صوته في حارة الأعجام داخل قرية القصيلة في أحد أحياء حلب القديمة، حيث كان محاطا بثلة من شيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية.
وفي سن مبكرة تمكن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية، مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ ومنشدي حلب.
وبعد ذلك اشتد عوده شيئا فشيئا، وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل، واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي "السمّيعة"، الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت.
وتضيف الكاتبة شذا نصار: "لم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي، خلال زيارته إلى حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب".
وبمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش، وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يناهز 14 عاما، وكانت أنشودة "يا رايحين لبيت الله مع السلامة وألف سلام مبروك عليك يا عبدالله يا قاصد كعبة الإسلام".
وقدم القدود للمرة الأولى من خلال أثير "إذاعة دمشق" وغنى "مالك يا حلوة مالك".
وقال، في مقابلة أجرتها معه محطة "سي بي سي" المصرية، إن الإذاعة السورية كانت "العلامة المميزة" و"المحطة الأولى" في مسيرته، "ثم كان التلفزيون العربي السوري المحطة الثانية"، وبعده "المحطات العربية" في لبنان والأردن والعراق.
الشيء الأهم بالنسبة لمكانة فخري الفنية، بحسب الكاتب السوري محمد منصور، أنه "استطاع أن يكون حاملا للتراث الغنائي السوري، وأن يوصل هذا التراث إلى أجيال متعددة، بعد أن عبر بهذا التراث أكثر من مرحلة تطوير وتحديث موسيقي".
ويقول: "كان صباح فخري عنوان لبقاء هذا التراث معاصرا وحيا في ذاكرة الأجيال"، مشيرا إلى أن المطرب الراحل استند إلى ركيزتين أساسيتين في الصعود، أولهما "معرفته بالعلوم الموسيقية، وإتقانه للمقامات والصولفيج وإتقانه العزف على الآلة الموسيقية (العود)".
أما الركيزة الأخرى فهي "قدراته الصوتية الاستثنائية التي أهلته لأن يغني جميع الأنواع الموسيقية والفنية في التراث السوري والحلبي".
ويوضح الكاتب السوري: "هاتان الركيزتان أهلتا فخري إضافة إلى إخلاصه لفن الغناء وابتعاده عن السياسة، لأن استمر وتربع على قمة الهرم الغنائي السوري، إضافة إلى عمره المديد وغزارة إنتاجه".
وفور إعلان خبر وفاة فخري، شارك فنانون ومطربون وروّاد مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا عبارات نعيه، وتغنّى البعض بكلمات من أغانيه مُطلقين عليه لقب "قلعة الطرب الأصيل".
وفي مدينة حلب التي ولد فيها وغنا لها ترك فخري "عيشة لا حب فيها"، وترك أيضا مدنا سورية أخرى يرى سوريون أنه قلما يتواجد فيها الحب في الوقت الحالي، بعد عشر سنوات من الحرب.
"حلب يعني صباح، وصباح يعني حلب" يقول أحد السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يشير آخرون إلى أنه "قلعة لن تموت وذاكرة خالدة لأجيال وأجيال".
وفخري الذي يوصف أيضا بـ"حارس تراث المدرسة الغنائية" رافق السوريين داخل البلاد وخارجها، في أفراحهم وأتراحهم وفي نزعات الغربة أيضا".
ويعتبر الناقد محمد منصور أن "صباح فخري وما غناه لم يكن حكرا على فكرة معينة يسمع بها. كان حالة طربية متكاملة".
ويضيف: "الشيء المهم الذي ينظر له اليوم أنه غنّى من عيون الشعر العربي ولم يقدم أغنية ذات كلمات هابطة ولم يدخل مرحلة الإسفاف".
وبحسب الناقد والكاتب السوري، فإن فخري "روّج لثقافة راقية على صعيد الكلمة المغناة، وعوّد أذن المستمع السوري والعربي على مستوى عال جدا من فنون الأداء، وحساسية نقل التعبير عن المعاني والصور الشعرية".
"وبالتالي كان فخري هو اختزال لحالة كلاسيكية طربية لم تدخل في نفق الإسفاف أو الاستسهال أو ترويج ثقافة يمكن أن تزول قيمتها وأثرها بزوال عصرها"، ويشير منصور إلى أن "الثقافة الكلاسيكية تكون راسخة في ذاكرة الفنون وتستطيع البقاء طويلا، وخصوصا إذا كانت بمثل التكامل الفني الخاص بصباح فخري".