Skip to main content

ما سر التحول الأميركي عن تركيا؟

إبادة الأرمن
AvaToday caption
أن نظرة أردوغان لتركيا لا تعكس سوى بعض النفعية السياسية البائسة، ذلك أن الحلفاء الغربيين لا يريدون الدخول في صراع معه، لكنهم لا يريدون أيضاً أن يكونوا أكثر دفئاً أو اقتراباً ولن يقدموا إليه مكاسب في المستقبل ما دامت سياساته على وضعها الحالي
posted onApril 25, 2021
nocomment

دفعت مخاوف توتر العلاقات الأميركية مع تركيا رؤساء الولايات المتحدة السابقين، إلى التراجع عن وصف قتل العثمانيين أكثر من مليون أرميني خلال الحرب العالمية الأولى على أنه إبادة جماعية، ربما لأن تركيا عضو حلف "الناتو" لعبت دوراً مهماً في التدخل العسكري للولايات المتحدة في كل من العراق وسوريا وأفغانستان، لكن الرئيس جو بايدن كسر حاجز الخوف معلناً وصف الإبادة الجماعية بشكل رسمي بعد أيام قليلة من إخطار أنقرة إخراجها من برنامج تصنيع أجزاء من طائرة "أف 35" الشبحية الأميركية والإبقاء على الدول الشريكة الأخرى، فما الذي تعنيه هذه الخطوات، وهل يفسر ذلك أن تركيا لم تعد تحظى بالأهمية الجيوسياسية للولايات المتحدة مثلما كانت في الماضي؟

لا يمثل اعتراف الرئيس الأميركي جو بايدن بأن عمليات القتل الجماعي التي ارتكبتها القوات العثمانية ضد الأرمن منذ أكثر من قرن تعتبر إبادة جماعية، سوى قمة جبل الجليد في توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة، ومؤشراً جديداً على استعداد بايدن لاختبار علاقة متراجعة مع حليف إقليمي منذ فترة طويلة وشريك داخل "الناتو".

ولم يكن بايدن فقط يفي بوعد حملته الانتخابية أو يسعى لدخول التاريخ كأول رئيس في منصبه منذ رونالد ريغان يستخدم مصطلح "الإبادة الجماعية" في وصف عمليات القتل الجماعي ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى أو يستهدف إرضاء الكونغرس من الحزبين والمدافعين عن حقوق الإنسان والجالية الأرمينية في الولايات المتحدة، وإنما يريد قبل كل ذلك أن يبعث برسالة عدم اكتراث إلى نظام رجب طيب أردوغان وبرد فعله الذي لن يزيد على الإدانة.

وعلى الرغم من أن تركيا تشترك مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وتلعب دوراً في محاولة حل الصراع المستمر في سوريا ومنع عودة تنظيم "داعش"، فإن بايدن ومنذ توليه منصبه، أبقى أردوغان بعيداً عنه، فأجرى اتصالات بقادة العالم الآخرين وترك نظيره التركي في انتظار أشهراً عدة، ما عكس حالة الجفاء في العلاقة بين الجانبين.

واعتُبر صمت البيت الأبيض المستمر تجاه أردوغان علامة على أن بايدن لم يعد ينظر إلى تركيا كأولوية وأنه استهدف إدارة العلاقة بين البلدين عبر المستويات الأدنى من الإدارة، وحينما قرر الاتصال به لأول مرة، حمل بايدن أنباء غير سارة لأردوغان عن اعترافه بالإبادة الجماعية للأرمن في تحد واضح للرغبة التركية والضغوط التي مارستها أنقرة بطرق مختلفة خلال السنوات الـ10 الماضية.

فقد استثمرت تركيا بكثافة في شركات الضغط والعلاقات العامة في الولايات المتحدة وأنفقت الملايين ودفعت تبرعات كبيرة للمنظمات غير الربحية المؤيدة لتركيا بهدف منع الاعتراف الأميركي بالإبادة الجماعية للأرمن وتخفيف الضغوط السياسية في الكونغرس ضد تركيا، لكن كل هذه الجهود باءت بالفشل لأن سلوكيات أنقرة وأردوغان كانت كفيلة بإفساد أي محاولات منطقية لمد جسور التواصل مع صناع القرار في واشنطن.

ووصلت العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوياتها مع تصرفات أردوغان الأكثر قتالية في تعاملاته مع واشنطن، لا سيما بعد الانقلاب الفاشل عام 2016 والذي حمل مسؤولية الإطاحة به على فتح الله غولن، وهو رجل دين تركي يعيش في منفاه الاختياري بولاية بنسلفانيا الأميركية، ودخل أردوغان في صراع آخر باعتقال أميركيين في تركيا ما أدى إلى فرض عقوبات مؤقتة ضد أنقرة، قبل أن تتصاعد التوترات مع صفقة تركيا شراء صواريخ "أس-400"عام 2017، ما دفع إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب إلى فرض عقوبات على تركيا.

وتبدو مشكلة أردوغان في رؤيته لتركيا، فهو ينظر لهذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة، والعضو في مجموعة الـ20 وفي حلف "الناتو"، باعتبارها قوة إقليمية تستحق المزيد من الاحترام على المسرح العالمي، وقد ظهرت وجهة النظر هذه في تدخلات تركيا العسكرية في سوريا وليبيا والعراق وأذربيجان، وفي التنقيب عن الغاز والبترول في مياه شرق البحر المتوسط العام الماضي.

ويعتقد أردوغان أن استمرار تواصل الحلفاء الغربيين مع تركيا واحتياجهم لها سوف يستمر بسبب منع تركيا تدفق ملايين اللاجئين السوريين إلى أوروبا ودعم تركيا لأوكرانيا وأفغانستان، حيث ستحتفظ بقوة صغيرة لتدريب أفراد الجيش والشرطة الأفغانية مع انسحاب الولايات المتحدة وقوات التحالف الأخرى بحلول 11 سبتمبر (أيلول) المقبل.

غير أن نظرة أردوغان لتركيا لا تعكس سوى بعض النفعية السياسية البائسة، ذلك أن الحلفاء الغربيين لا يريدون الدخول في صراع معه، لكنهم لا يريدون أيضاً أن يكونوا أكثر دفئاً أو اقتراباً ولن يقدموا إليه مكاسب في المستقبل ما دامت سياساته على وضعها الحالي.

ولعل أبرز دليل على ذلك، إخراج تركيا رسمياً من برنامج تصنيع الطائرات المقاتلة "أف- 35" عبر إنهاء مذكرة تفاهم وقعتها الولايات المتحدة عام 2006 مع تسع دول شريكة، بما في ذلك تركيا، بينما وقع الشركاء الثمانية الباقون مذكرة تفاهم جديدة، وبذلك لن تشترك تركيا في تصنيع الطائرة ولن تحصل على أكثر من 100 طالبت بشرائها.

على الرغم من أن الحرب الباردة جعلت الشراكة الأميركية الاستراتيجية مع تركيا أمراً منطقياً باعتبارها جزءاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو) حتى اليوم، إلا أن تركيا ليست حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة ذلك أنها شكلت تاريخياً تهديداً للغرب بسبب موقعها الجغرافي وتاريخها الطويل من محاولات التوسع الإمبراطوري في جنوب شرق ووسط أوروبا، وهي محاولات عادت إلى السطح مرة أخرى في العصر الحديث عقب الحرب الباردة وبخاصة خلال فترة حكم أردوغان الطويلة التي شهدت ارتداداً إلى القاعدة التاريخية التركية في معاداة الغرب.

وبصرف النظر عما يتجادل حوله المراقبون والمؤرخون في ما إذا كانت دوافع أردوغان الاستراتيجية تمثل عثمانية جديدة، أو إسلاموية، أو عرقية، فإن ما يهم الغرب الذي تتزعمه الولايات المتحدة هو أن تركيا أصبحت دولة شريرة بشكل متزايد ولا تشارك الغرب سوى القليل من المصالح والقيم، أو بعبارة أخرى أضحت تكاليف الشراكة مع تركيا أكثر بكثير من الفوائد.

فعلى الرغم من التعاون الدفاعي بين الولايات المتحدة وتركيا، الذي لعب دوراً محورياً في منع الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن عقوداً عدة، فإن العلاقات توترت بشكل متزايد بسبب تسليم الأسلحة التركية إلى المناطق التي يسيطر عليها المتطرفون الإسلاميون في سوريا، وسجن الصحافيين والقضاة والنشطاء الحقوقيين وتزايد الاستبداد في ظل حكم أردوغان، وشراء صواريخ "أس- 400" المضادة للطائرات من روسيا، واستخدام جماعات وكيلة في نزاعات مختلفة، كما بدا الانقسام بين واشنطن وأنقرة أكثر وضوحاً في شمال شرقي سوريا، حيث دعمت واشنطن قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الأكراد غالبيتها من أجل هزيمة تنظيم "داعش" بينما هاجمتهم تركيا واتهمتهم بالإرهاب وتهديد أمنها القومي.

وإذا كانت هناك حاجة إلى أدلة أكثر وضوحاً تبرز المصالح المتعارضة بين الولايات المتحدة وتركيا، فليس هناك أدل من تعاطف أردوغان مع زميله القوي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فعلى الرغم من المصالح المتعارضة بين موسكو وأنقرة في كل من سوريا وليبيا وجنوب القوقاز، حافظت روسيا وتركيا على علاقة براغماتية نفعية تحافظ على عدم المخاطرة بهيبتهما، وهو درس تعلمتاه من عدم قدرة واشنطن على الحفاظ على هيبتها خلال خروجها من المنطقة.

وعلاوة على ذلك، فإن التواصل بين بوتين وأردوغان يثير بعض المخاوف في الغرب لأن علاقتهما يمكن أن تضعف حلف "الناتو" الذي يعتبره بوتين، وعلى الأرجح أيضاً أردوغان عدواً على المدى الطويل، وهو ما يجعلهما على استعداد لتحمل الانتكاسات التي تحدث بين الحين والآخر في علاقتهما المشتركة، بما في ذلك اعتراف روسيا المتكرر بالإبادة الجماعية للأرمن.

والآن بعد الإعلان عن انسحاب أميركي كامل من أفغانستان، من المرجح أن يتراجع الوجود والاهتمام الأميركي في تركيا عقب انحسار الأهمية الجيوستراتيجية للولايات المتحدة في هذا البلد قياساً بما كانت عليه الحال قبل 20 عاماً أو أكثر على الرغم من اتفاق بايدن وأردوغان على إدارة فعالة للخلافات بينهما وأن يجتمعا خلال قمة حلف "الناتو" في يونيو (حزيران) المقبل.