رفيق خوري
لبنان وصل إلى الفصل الأخير القاتل في التراجيديا الإغريقية. هو عاجز عن تأليف حكومة، ومطلوب منه أن يكون المحارب الدائم على الجبهة الأمامية لمحور "الممانعة" بقيادة إيران. مهدد باكتمال الانهيار، وسط الأنانيات والصغائر لدى حكامه والحسابات الكبيرة الباردة للمتحكمين به. وأهل السلطة المحكومون بالانحياز إلى محور إقليمي في صراع المحاور في عزلة عربية ودولية يماطلون في تقديم ما يفك العزلة عبر المبادرة الفرنسية المدعومة عربياً ودولياً، لأن كلفتها إجراء إصلاحات توقف المحاصصة والفساد والسطو على المال العام والخاص. وإذا كانت سلسلة من السياسات الخاطئة، عن غباء أو عن قصد، قادت إلى الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي فإن هناك أيضاً أسباباً أبعد.
الجميع يعرف المعادلة الجوهرية: لا حياة للبنان من دون العمق العربي والأفق الغربي. أيام إمارة فخر الدين ثم الإمارة الشهابية والقائمقاميتين ومتصرفية جبل لبنان، كانت الدول الأوروبية حاضرة في "ضبط" سياسات السلطنة العثمانية. بعد سقوط الأخيرة في الحرب العالمية الأولى أقيم "لبنان الكبير" بقرار فرنسي وسط اليقظة العربية التي أدّت إلى نشوء البلدان العربية كما هي على الخريطة اليوم.
وبعد الاستقلال ومعه كان الميثاق الوطني الذي خلاصته: "لا انحياز، لا موقع ممتازاً، لا مقر ولا ممر" للمؤامرات على الإخوان العرب. لكن اللعب بلبنان لم يتأخر. عام 1958 دفع لبنان ثمن الانحياز إلى حلف بغداد وصراع التيار الناصري ضده. عام 1975 بدأ يدفع فاتورة مغامرة تجمعت فيها على أرضه كل المنظمات الفلسطينية رافعة شعار تحرير فلسطين من لبنان، بعد ما جرى إخراجها من الأردن عام 1970. ثم دفع ثمن الاجتياح الإسرائيلي لطرد هذه المنظمات، وكان عليه تقديم التضحيات لدحر الاحتلال عام 2000.
المطلوب منه اليوم أكبر من طاقته، فهو يُساق بالقوة إلى محور يتناقض مع جوهره وطبيعته وتركيبته الاجتماعية، ويُراد له أن يسلّم لا فحسب بالتدخل الإيراني، بل أيضاً بأن تكون "الجمهورية الإسلامية" شريكاً فيه قبل الانفراد به. صحيح أن سلاح "حزب الله" حرّر الجنوب بالمقاومة، إذ فشلت "دول الطوق" في تحرير أرضها المحتلة بالقوة، وقادت التسويات ومعاهدات السلام إلى استعادة مصر والأردن للأرض.
لكن، الصحيح أيضاً، أن مقاومة العدو واحدة من وظائف السلاح، في حين أن سبب وجوده هو القتال من أجل ولاية الفقيه، بالتالي أن يكون لاعباً إقليمياً كما في حرب سوريا وسواها. فلا طرف في لبنان لديه مشروع، باستثناء "حزب الله". وهو بالطبع مشروع الولاية الذي يبقى "الحزب" مجرد جزء منه، يواجه حلفاً إقليمياً ودولياً ضده.
فما تكرر على أسماعنا من مسؤولين في طهران هو أنها تحكم أربع عواصم عربية: بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء، وما نسمعه هذه الأيام أوسع بكثير، إذ دعا محسن رضائي أمين سر "مجلس تشخيص مصلحة النظام" إلى "إعادة المجد والجلالة والكبرياء لإيران العظمى التي إن تشكلت في شمال الخليج وبحر عمان فستضم 15 بلداً من السند وسيحون في الشرق إلى غزة ولبنان في الغرب، وندخل السياسة العالمية، بحيث إن على مَن يزور المنطقة أن يزور إيران أولاً، ويخاطبها، وهذا ما يخافه الغرب".
لا أحد يجهل أن الحواجز أمام هذا المشروع متعددة وقوية جداً، بحيث لا مجال لتحقيقه بحرب ضد قوى قادرة على تدمير إيران نفسها، ولا هو ممكن ضمن أية صفقة. فضلاً عن أن ما يسميه الجميع من دون نقاش "فائض القوة" لدى "حزب الله" هو "قوة ناقصة" في بلد ينهار ولا يمكن استعمالها في الداخل من دون مضاعفات خطيرة.
وإذا اكتمل انهيار البلد، فما الذي يستطيع "حزب الله" فعله للإمساك ببلد مفلس ومدين وتحمل المسؤولية عن الخدمات وكل ما تتطلبه أوضاع الناس؟ ماذا يحدث حين تفرض عليه الظروف الجديدة إمّا الذهاب إلى حرب مع إسرائيل، أو عقد صفقة معها؟ الحرب تدمّر كل شيء. والصفقة تُفقد "الحزب" خطابه المقاوم. حتى، من دون كل هذه السيناريوهات، فإن ذهاب لبنان إلى إيران تحت عنوان "الاتجاه شرقاً" هو وصفة لاستدعاء العقوبات واستكمال العزلة العربية والدولية. وإذا كان بناء دولة مدنية مهمة صعبة في مناخ العصبيات الطائفية والمذهبية، فإن إقامة دولة دينية مهمة مستحيلة.
والحد الأدنى للتخلي عن المصالح الضيقة والطموحات الواسعة هو العمل ببساطة على بناء دولة، أي دولة، أو أقله ترتيب سلطة نزيهة تخدم البلد والناس، بدل أن تمارس سياسة "القبيلة والغنيمة".