عبد الوهاب بدرخان
يجنح الوضع السياسي في لبنان نحو الانفلات أكثر فأكثر مع دفع «حزب الله» بالاحتقان إلى الشارع عبر استفزازات منظّمة مفتعلة تقدم عليها مجموعات تابعة له أو قريبة منه وبـ «أمر عمليات» صادر عنه. سبق للبنان أن عرف ما تعنيه الاحتكاكات المحدودة في الشارع، فمن شأن تكرارها أن ينضّج بذور فتنة واقتتال يمكن لـ «الحزب» أن يديرهما مع التظاهر بأن لا علاقة له بهما، لكنه يستغلّهما ويعرض توسّطه لإنهائهما متى حصل على التنازلات التي لم تُستجَب سابقاً، واستدعت أن يحرّك أذرعه لإشاعة المخاطر في البلد. وفي حال لم يفلح التوتير في الشارع وظلّ الأفق السياسي مسدوداً فإنه قد يلجأ إلى الأسلوب الذي سبق أن اتّبعه. ففي أواخر العام 2013 ووسط أزمة حكومية اصطدمت بشروط وشروط مضادة من «حزب الله» و«تيار المستقبل» اغتيل الوزير السابق محمد شطح الذي كان مستشاراً لرئيس الحكومة سعد الحريري، وشكّل ذلك إنذاراً دموياً فرض لاحقاً تنازلاً من الحريري عن شروطه لتسهيل ولادة حكومة تمام سلام.
كان لبنان يقترب آنذاك من نهاية ولاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وكان معلوماً مسبقاً أن انتخاب خلفٍ له لن يمرّ بسهولة، وبالتالي فإن حكومة سلام ستكون بموجب الدستور الجهة الحاكمة ذات الصلاحيات الرئاسية في غياب الرئيس، ولذلك وجب التحكّم بتركيبتها وتلغيمها من داخلها. في الأزمة الحكومية الراهنة هناك رئيس للجمهورية ورئيس حكومة أعيد تكليفه بغالبية نيابية كبيرة لتشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات مايو الماضي. خلال الشهور الماضية برزت عُقد عدة أمام التشكيل، وكانت أبرزها عقدتا التمثيل المسيحي والدرزي. الأولى نتجت عن خلاف بين حزب الرئيس أي «التيار الوطني الحرّ» وحزب «القوات اللبنانية» بزعامة سمير جعجع، وأمكنت تسويتها بتنازل الأخير عن وزير من حصّته. والثانية نتجت عن اعتراض حزب الرئيس على احتكار حزب وليد جنبلاط تمثيل الدروز بثلاث وزارات رغم فوزه بتسعة مقاعد في الانتخابات مقابل مقعد واحد فاز به طلال أرسلان، والأخير يدعمه «حزب الله» والنظام السوري لكن داعميه لم يظهروا في الصورة، وتركوا لرئيس «التيار الوطني» جبران باسيل خوض معركة توزيره، وقضت التسوية بقبول جنبلاط وزيراً من خارج كتلته يقترحه أرسلان.
طوال الشهور الماضية كان «حزب الله» يدير الأزمة بـ «الريموت كونترول»، عبر الوزير باسيل، متدخّلاً بتوزيع الحقائب الوزارية وبوضع «فيتو» على أشخاص معيّنين وكذلك باشتراطات مسبقة لأولويات الحكومة ومضمون بيانها أمام البرلمان. وإذ سبق لـ «الحزب» أن طرح توزير أحد من يسمّون «سنّة 8 آذار»، أي النواب السنّة الذين انتخبوا على قوائمه أو قوائم حلفائه، ويعتبرون موالين له أو للنظام السوري، إلا أنه أوحى بأنه سحب طلبه، بدليل أن إصراره على تمثيلهم غاب عن خريطة العُقد، لكنه عاد فوضعه على الطاولة عندما اكتملت الاستعدادات لإعلان ولادة الحكومة. كان ذلك تعطيلاً واضحاً ومتعمّداً، فـ «الحزب» يريد مسبقاً ضرب التوازن السياسي للحكومة، وتفكيك التسوية السياسية القائمة بين عون والحريري، وأخيراً فرض تغيير واختراق لصيغة الحكم وآلية تشكيل الحكومات من خارج الدستور وتوافقات «اتفاق الطائف». ما الذي دفع «الحزب» إلى هذا التعطيل؟ عدا الأهداف الداخلية المشار إليها، هناك أولاً مراعاته ظروف المواجهة بين إيران والولايات المتحدة وإظهار مدى التحكّم الإيراني بالاستقرار اللبناني (ينطبق أيضاً على العراق حيث تقام عقبات أمام استكمال الحكومة)، وثانياً خشية «حزب الله» من حكومة لبنانية يمكن أن تثار فيها مسألة العقوبات الأميركية المفروضة عليه وتصنيفه كمنظمة إرهابية. ويقدّر العديد من المراجع اللبنانية أن «أمر عمليات» إيرانياً جعل «الحزب» يفتعل إشكال السنّة الموالين له لتأخير الحكومة.
نتيجة لذلك، أصبحت الأزمة صراع إرادات: فالحريري رفض منذ البداية تمثيل «سنّة حزب الله» ولا ينوي التنازل حتى لو اضطرّه الأمر للانسحاب من تشكيل الحكومة. و«الحزب» يتعنّت في هذه المسألة ولا يقبل بأن تُكسر كلمته ولذا انتقل إلى التوتير والتلويح بفتنة في الشارع. أما الطرف الثالث أو الوسيط الذي يفترض أن يتمثّل برئيس الجمهورية وحزبه فإن تحالفهما «الاستراتيجي» مع «الحزب» و«التسوية» التي تربطهما بالحريري يحولان دون اتخاذهما موقفاً حاسماً، إذ إن مصالح الرئيس وحزبه تجعلهما أكثر ميلاً إلى مراعاة النظامين السوري والإيراني. لكن ترك المشكلة من دون حل سياسي جعلت الأوساط اللبنانية تشتبه بأن إيران قد تكون أجازت لـ «حزبها» إشعال فتنة في لبنان