اتّضحت في العراق، بشكل جلي، ملامح سياسة جديدة تقوم على محاولة التوازن بين مختلف القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ بالبلد نظرا لأهميته ولوزنه وللدور الذي يستطيع القيام به في حال استعاد استقراره وقوّته السياسية والاقتصادية.
ويمكن لبغداد أن تجني فوائد عملية كثيرة من وراء هذه السياسة البراغماتية، في حال تمكّنت من القفز على عوائق سياسية داخلية، على رأسها سطوة قوى ذات نفوذ كبير وتأثير فاعل في عملية أخذ القرار، وهي معبّأة أيديولوجيا ومنحازة سياسيا وطائفيا، ولا تستطيع أن تنظر إلى عراق ما بعد 2003 خارج دائرة التأثير الإيراني.
ويعمل طاقم الحكم الحالي من خلال نشاط سياسي ودبلوماسي كثيف على استكمال حراك كانت قد بدأته حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي واتجه صوب العديد من عواصم الإقليم لتنشيط العلاقات معها في مختلف الجوانب السياسية، والأمنية، وخصوصا الاقتصادية، نظرا لحاجة العراق الأكيدة والعاجلة لإعادة تنشيط اقتصاده، ولدفع عجلة التنمية شبه المتوقّفة، ومن وراء ذلك تحسين الظروف الاجتماعية التي بات سوءها مصدر غضب متصاعد في الشارع.
فمن السعودية إلى إيران إلى تركيا، فالأردن، ومصر، إلى الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا، اتجه حراك الماكنة الدبلوماسية العراقية بهدف بناء علاقات تعاون أقوى.
وتتردّد كثيرا في الخطاب السياسي العراقي الحالي لاَزِمَةُ الابتعاد عن سياسة المحاور. وجدّد التعبير عن ذلك الرئيس العراقي برهم صالح بالقول في حواره الأربعاء الماضي مع صحيفة “العرب”، “نسعى لأن يكون العراق ساحة تلاقي المصالح الدولية والإقليمية وفق ما تقتضيه مصلحته وسيادته”، رافضا أن “يكون العراق ساحة تصفية حسابات”.
كما شدّد الرئيس صالح في ذات الحوار على القول إنّ الأولويات الأمنية والسياسية والاقتصادية للعراق في الوقت الحالي “تستوجب منّا عدم الانخراط في سياسة المحاور والتخندق”، مؤكّدا “العراق ليس في مصلحته أن يكون جزءا من أي صراع أو عداء ضد جيرانه، وهذا ما يؤكده الدستور العراقي أيضا من احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”.
ويذكّر مثل هذا الخطاب في بعض وجوهه بشعار “النأي بالنفس” المرفوع عاليا في لبنان الذي يعيش وضعا شبيها بالوضع العراقي من زاوية التنافس الشديد عليه من قبل أقطاب إقليمية ودولية، ومن زاوية السطوة الإيرانية على قراره من خلال قوى محلّية يتزّعمها حزب الله.
لكنّ لبنان نموذج سيء في تطبيق هذا الشعار على أرض الواقع، فلا البلد استطاع تجنّب التورّط طيلة سنوات في الصراع الدامي بسوريا المجاورة عن طريق مشاركة حزب الله وهو جزء من الحكومة اللبنانية، ولا هو استطاع تكييف سياسته الخارجية وصياغة مواقفه من القضايا المحلية والإقليمية الكبرى بشكل يعكس فعليا “نأيه بنفسه” عن مشكلات المنطقة وصراعاتها.
وفي الحالة العراقية تظلّ سياسة التوازن وتجنّب المحاور مهدّدة بجدية من قوى محلّية موالية بوضوح لطهران وترى في أي تقارب بين البلد وقوى إقليمية مثل السعودية تهديدا لمكانة إيران ونفوذها.
وبعد زيارة غير مسبوقة قام بها الأيام الماضية إلى العراق وفد سعودي ضمّ أكثر من مئة فرد بينهم سبعة وزراء وتمّ الاتفاق خلالها على مشاريع تعاون كبرى بين البلدين في عدّة مجالات إضافة إلى تعهّد السعودية بتقديم منحة مالية مباشرة للعراق، هاجمت شخصيات وقوى سياسية عراقية معروفة بولائها لإيران الرياض وشكّكت في نواياها من التقارب وتمتين التعاون مع بغداد.
وقال عامر الفايز النائب عن تحالف الفتح القريب من إيران، معلّقا على المنحة التي أعلنت عنها السعودية، إن “منحة المليار دولار ليست خيرية”، مضيفا أن هذه المنح يجب ألا تفرض على العراق الانخراط في محور إقليمي معيّن.
كما انتقد عباس الموسوي المتحدث باسم ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ما سمّاه “رقص بعض العراقيين للزيارة السعودية من غير دف”.
وقال الموسوي إنّ عودة السعودية إلى فتح ملف “منفذ عرعر” لا ترتبط بمصالح العراق بل بمحاولة “إعادة مشروعها الذي فشل في سوريا”.
وبذات الحدّة هاجمت وسائل إعلام ومواقع للتواصل الاجتماعي تابعة لأحزاب شيعية عراقية عضو الوفد السعودي وزير شؤون الخليج ثامر السبهان الذي سبق له أن تولى لفترة وجيزة منصب سفير لبلاده في العراق.
وعلّق أحد المواقع الإلكترونية على تغريدة للسبهان أثنى فيها على الترحاب الذي لقيه الوفد السعودي في العراق، بالقول إنّه “يحاول طرح مثل هذه الأكاذيب لطمس الجرائم البشعة التي ارتكبت ضد العراقيين.. وأن مثل هذه الأكاذيب لا تنطلي على الشعب العراقي”.
وعمليا يمكن منع تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه بين الجانبين العراقي والسعودي، إذا تمّ إخضاعه لموافقة البرلمان العراقي الذي تمتلك قوى موالية لإيران كتلا وازنة داخله. وأعلنت لجنة العلاقات الخارجية البرلمانية، الجمعة، أن جميع الاتفاقيات والمعاهدات التي تم توقيعها مع الوفد السعودي ستخضع لمناقشات داخل قبة البرلمان، فضلا عن استضافات للجهات المعنية بتلك الاتفاقات.
والقوى التي هاجمت زيارة الوفد السعودي، رغم النتائج العملية الجيدة التي تمخضت عنها للعراق، هي ذاتها تلك التي رحبت بزيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أسابيع إلى بغداد، على الرغم من أن المستفيد الأول مما طرح من مشاريع تعاون اقتصادي هو طهران ذاتها، فيما العراق مرشّح لتحمّل أعباء وتبعات خرقه للعقوبات الأميركية الشديدة المفروضة على إيران من قبل الولايات المتّحدة.
وكثيرا ما توصف القوى العراقية المعترضة على تحسين علاقات البلد ببلدان محيطه الإقليمي بـ”حرّاس النفوذ الإيراني”، ليس فقط من عودة دول الإقليم مثل السعودية إلى ساحته، لكن أيضا من قوى دولية على رأسها الولايات المتّحدة وإن كانت الأخيرة لا تفتقر لركائز تعتمد عليها هي بدورها لحماية نفوذها في العراق.
وبنفس الطريقة التي هوجم بها الوفد السعودي، تمّ التعاطي مع زيارة رئيس البرلمان العراقي محمّد الحلبوسي (عربي سنّي) إلى الولايات المتّحدة، خصوصا وأنّ الأخير أصدر إشارات بشأن انحيازه لخيار بقاء القوات الأميركية داخل الأراضي العراقية، فيما قوى شيعية جلّها موالية لإيران تعلن نيّتها إجبارها على المغادرة بسنّ تشريع ينصّ على ذلك باستخدام كتلها البرلمانية الوازنة.
واعتبر إياد السماوي المقرّب من تحالف الفتح بقيادة هادي العامري زعيم منظمة بدر أن تصريحات الحلبوسي التي قال فيها إنّ الكثير من القوى السياسية العراقية ترى ضرورة بقاء القوّات الأجنبية في العراق “لا تعبّر عن الموقف الرسمي للحكومة العراقية ولا عن موقف غالبية الكتل النيابية في مجلس النواب”، مضيفا أنّ “القواعد والقوات الأميركية أصبحت تشّكل خطرا داهما على سيادة العراق وأمنه وقراره السياسي”.
ويصف متابعون للشأن العراقي مثل تلك السجالات بشأن قضايا ذات صلة بعلاقات العراق مع الخارج سواء تعلّق الأمر بدول الإقليم أو بباقي دول العالم، بأنها دليل على سطوة العامل الأيديولوجي والطائفي والعرقي على قرارات البلد وصنع سياساته، فيما المطلوب في المرحلة الراهنة وما يميّزها من مصاعب ومن متطلّبات للخروج من حقبة حرب داعش وما أحدثته من دمار كبير، إخضاع القرارات والسياسات لمقياس مصلحة العراق وشعبه الذي لم يعد يلقي بالا للشعارات، بقدر ما هو مهتمّ بتحسين أوضاعه الصعبة وتجاوزها.