كشفت مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة في العراق عن تراجع كبير في تأثير حزب الدعوة الإسلامية، الذي سبق أن احتكر السلطة بين 2005 و2018. وعلمت بعض المصادر على صلة بمفاوضات تشكيل حكومة رئيس الوزراء المكلف مصطفى الكاظمي أن حزب الدعوة الذي يتزعمه نوري المالكي سيحصل على وزارة واحدة في الكابينة الجديدة.
وتكشف المصادر أن الوزارة التي مُنحت لحزب المالكي لن تكون سيادية أو ذات شأن، بعدما حجزت القوى السياسية الشيعية والسنية والكردية الحقائب المهمة. وتشير المصادر إلى أن المالكي يفكر في ترشيح أحد صهريه؛ حسين المالكي أو ياسر صخيل، لشغل هذه الحقيبة، ما يعمق الأزمة التي يعانيها حزب الدعوة منذ عام 2011.
وشهد عام 2011 هيمنة من قبل المالكي وأصهاره على القرار السياسي في حزب الدعوة الإسلامية، الذي احتكر منصب رئيس الوزراء بعد 2003 لمدة 14 عاما.
وبسبب فرض المالكي أصهاره على الدعوة، شهد الحزب انشقاقات عديدة، أبرزها تلك التي قادها رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وقادت إلى حصوله على منصب رئيس الوزراء عام 2014. وشغل العبادي لسنوات مسؤولية رئيس المكتب السياسي للحزب، قبل أن يجمده المالكي.
وشغل المالكي منصب رئيس الوزراء لولايتين بين 2006 و2014، وكان قريبا من الولاية الثالثة لولا اعتراض المرجع الشيعي علي السيستاني.
يعتقد السيستاني أن المالكي بالغ في ولائه لإيران خلال الأعوام الأخيرة من ولايته الثانية، وحوّل شيعة العراق إلى حطب لنيران مشاريع طهران الخارجية.
وتقول مصادر مطلعة إن انشقاقا جديدا قد يقع داخل الدعوة الآن، بسبب إصرار المالكي على إسناد الوزارة إلى أحد أصهاره، مشيرة إلى اندلاع خلاف بين الأمين العام للحزب وعبدالحليم الزهيري، أحد أبرز القادة فيه.
وقبل عدة أعوام، لم يكن أحد ليصدق أن حزب الدعوة قد يتراجع إلى هذا المستوى، بعد أن احتكر المنصب الأول في النظام السياسي العراقي طيلة أعوام.
ويقول مراقبون إن سعي المالكي إلى تقويض النفوذ الروحي للسيستاني في أوساط الجمهور الشيعي أضر بحزب الدعوة الذي تأسس عام 1957 لمجابهة الانفتاح الاجتماعي الذي صعد في أواخر العهد الملكي وبلغ ذروته منتصف السبعينات.
ويبتسم منظرو الحزب الذين مازالوا على قيد الحياة، مثل رجل الدين الشيعي طالب الرفاعي، عندما يُسألون عن حقيقة أن الدعوة، هي أحد أصداء تجربة الإخوان المسلمين في مصر، بدلالة التشابه في المنطلقات والأهداف، لذلك كثيرا ما قيل إن حزب الدعوة الإسلامية ما هو إلا نسخة شيعية من حركة الإخوان السنية.
ومع سيطرة حزب البعث على السلطة، تحول حزب الدعوة إلى المعارضة انطلاقا من خلفيته الدينية ضد ما افترض أنه كيان علماني ملحد، توجب الشريعة الإسلامية التصدي له، ما حوله إلى أشد أعداء السلطة خلال العقود التالية.
عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، استغل حزب الدعوة انشغالات النظام على الحدود وتحرك لتنفيذ عمليات اغتيال ضد شخصيات بارزة في السلطة من بينها محاولة اغتيال طارق عزيز.
وتعزو أدبيات الجماعات الإسلامية المسلحة “فضل” تفجير أول سيارة مفخخة، إلى حزب الدعوة، خلال محاولاته اغتيال شخصيات قيادية في نظام البعث خلال حقبة الثمانينات، وبدأت قصة حزب الدعوة في الحكم داخل العراق مع تولي زعيمه إبراهيم الجعفري منصب رئيس الوزراء في مايو 2005.
وكانت مهمة الحكومة التي شكلها الجعفري وقاطعها العرب السنة، تتلخص في إجراء انتخابات تفرز حكومة دائمة تدير البلاد لأربع سنوات، بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003.
ومثلت حكومة الجعفري نهاية الحالة الانتقالية العراقية التي بدأت بتجربة إدارة مباشرة عبر الاحتلال الأميركي على يدي الحاكم المدني بول بريمر، ثم مجلس الحكم، وهو تشكيل يضم ممثلين عن الأديان والقوميات العراقية يتداول أعضاؤه السلطة شهريا، ثم الحكومة المؤقتة برئاسة إياد علاوي.
وكان الجعفري حينها يسعى إلى لفت الأنظار من خلال استعراضاته الخطابية، التي كثيرا ما أثارت السخرية لجهة استخدامه مصطلحات غريبة، وتناوله ملفات في غير وقتها، ما فتح الباب على أسئلة كثيرة تتعلق بكفاءة قيادات حزب الدعوة لتولي مثل هذه المهام.
لكن الأمر لم يكن يتعلق بكفاءة الجعفري، وإنما بموقعه الحزبي، فهو زعيم الحزب الذي أجمع رجال الدين الشيعة في العراق عام 2004 على أن يحتكر منصب رئيس الوزراء إلى أجل غير مسمى، بوصفه أعرق التجارب السياسية الشيعية من جهة، ولأنه خسر الجزء الأكبر من قياداته خلال مناهضته لحزب البعث من جهة ثانية، ولم يستمر وجود الجعفري في واجهة المشهد سوى شهور، حيث صعد نجم أسماء أخرى في حزب الدعوة، أبرزها نوري المالكي وعلي الأديب، اللذين تنافسا على خلافة الجعفري في منصب رئيس الوزراء.
عندما تفوّق المالكي في انتخابات حزبية على الأديب وكُلف بتشكيل الحكومة في 2006، كانت البلاد تخوض واحدة من أسوأ النزاعات الأهلية في تاريخها، حيث كانت التصفيات المتبادلة بين الشيعة والسنة في أشدها، فيما كان تنظيم القاعدة يكسب الأنصار في أوساط الأقلية السنية التي وجدت نفسها خارج دائرة الحكم، بعد الإطاحة بصدام حسين من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا.
وقبل أن يتفرغ المالكي للتصدي إلى الحرب الأهلية، كان عليه أن يستولي على قيادة حزب الدعوة، بوصفه شاغل المنصب الأول في العراق، لكن إزاحة الجعفري من موقعه السياسي بعد إزاحته من موقعه التنفيذي، لم تكن ممكنة، ما دفع مجلس شورى الحزب، الذي تحول لدعم رئيس الوزراء الجديد، إلى ابتكار حيلة. ففي المؤتمر العام للحزب، فوجئ الجعفري بأن هناك اقتراعا جديدا أقرته الهيئة العامة حول منصب “الأمين العام”، الذي تتجاوز صلاحياته صلاحيات الرئيس.
وانتخب المالكي أمينا عاما للحزب، ليجد الجعفري نفسه مضطرا لمغادرة الدعوة بشكل نهائي، حيث انشق ليشكل تيارا جديدا حمل عنوان الإصلاح.
وكان واضحا أن المالكي سيبقى على رأس الدعوة ما دام على رأس السلطة في العراق، لكنه لم يكتف بهذا الواقع، بل أراد تحويل الحزب إلى مجرد مساحة خدمية ضمن إمبراطوريته التي بدأ تشييدها عام 2011، عندما غادر الأميركيون البلاد، وتركوا الساحة لرئيس الوزراء كي يعيد تشكيلها على هواه، وفي هذه الذروة، صار الحزب مجرد ذراع في مشروع المالكي الذي يتمدد تحت عنوان دولة القانون، وهو الأمر الذي أغاظ قيادات الدعوة.
ويقول مطلعون إن المالكي أغضب رفاقه في الحزب في تلك الحقبة، ليس لمجرد هيمنته على كل مفاصل الدولة، بل لأنه فتح باب القرائبية لتدكَّ أسوار الدعوة. وجاء المالكي باثنين من أصهاره ومنحهما أدوارا قيادية في الحزب.
ومع حلول عام 2014، كان المالكي قد هيمن على الدولة والحزب، لكنه خسر ثلث أراضي الوطن لصالح تنظيم داعش، ما مهد لإطاحته من العرش.
سقط المالكي في سباق الفوز برئاسة الحكومة، لكن الحزب لم يسقط، إذ دفع رئيس مكتبه السياسي حيدر العبادي ليشغل المنصب التنفيذي الأول في النظام السياسي العراقي بين 2014 و2018.
وأثار هذا التحول غضب المالكي ودفعه إلى التشكيك في الشرعية الحزبية التي سمحت بصعود العبادي، لكنه عاد إلى رشده واكتفى بإقصاء كل من دَعَمَ العبادي بعيدا عن أسوار حزب الدعوة.
وكرس المالكي موقعه الحزبي والسياسي خلال الأعوام التالية لمناكفة العبادي، وصعّد ضده بقوة عندما شعر أنه يبني شعبية قد تساعده في الحصول على ولاية ثانية.
ويقول ساسة واكبوا هذه المرحلة، إن المالكي كان أحد أهم أسباب فقدان حزبه السلطة، عندما طلب من الزعماء الشيعة في 2018 اختيار أي مرشح لرئاسة الوزراء باستثناء العبادي.
كان العبادي في نهاية دورته اكتسب عداوة إيرانية لا بأس بها، لأنه تصالح مع السعودية واقترب من الولايات المتحدة، ومع الثأر الذي يضمره المالكي له، أصبح استمراره في السلطة مستحيلا.
وغادر العبادي المنصب في 2018، فاسحا المجال أمام أول رئيس حكومة في العراق، من خارج حزب الدعوة، منذ 2005.
ومع صعود قوى جديدة في الفضاء الشيعي مثل تيار الزعيم الديني مقتدى الصدر، واستعادة قوى تقليدية زخمها الذي خسرته خلال السنوات الماضية مثل رجل الدين الشيعي عمار الحكيم، يعتقد مراقبون أن عودة السلطة لحزب الدعوة لا يمكن أن تتحقق في المدى المنظور. ورغم أن العبادي لم يخرج من حزب الدعوة رسميا حتى الآن، إلا أن صلته التنظيمية به منقطعة.
وليست مصادفة أن يحصل الائتلاف الذي يقوده العبادي على وزارتين في كابينة الكاظمي، في حين يحصل المالكي على وزارة واحدة.
ومنذ تكليف الكاظمي بتشكيل الحكومة، يروج مقربون من المالكي أن الأول هو أحد رجال حزب الدعوة السابقين، لكن الكاظمي يقول إن علاقته بالدعوة تشبه علاقته بجميع القوى السياسية الشيعية.
وتؤكد المصادر أن مشاركة حزب الدعوة في حكومة الكاظمي ليست مؤكدة، في حال أصر المالكي على استيزار أحد أصهاره.