عبدالأمير المجر
هناك مثل اميركي يقول "كثيرا ما نرى الاشياء على غير حقيقتها، لأننا نكتفي بقراءة العنوان". المثل ينسجم مع طبيعة السياسة الاميركية التي كثيرا ما قدمت لنا عناوين مثيرة واشتغلت عليها اعلاميا حتى دكتها في آذاننا دكا! الاّ ان الانكشاف المتكرر للحقائق جعلنا نتردد كثيرا في تصديق ما يصدّر الينا من عناوين اخرى.
لاسيما حين تكون لأزمات مفصلية تستدعي حروبا وانقلابات و"انتفاضات" و"ثورات"، اتضح لاحقا انها لم تكن سوى افلام هوليوودية اخرجت بعناية وابطالها الحقيقيون في الكواليس دائما يديرون اللعبة ويرسمون نهاياتها.
وللحق نقول، ليست اميركا وحدها من ظلت تصدر لنا العناوين الخادعة، بل غيرها دول كثيرة.
في العراق عشنا فصولا من هذه اللعبة، ودفعنا الثمن باهظا. حكاية اسلحة الدمار الشامل شغلت العالم لأكثر من عقد وكانت عنوانا بارزا لأزمة بدأت قبل هذا التاريخ، حتى انتهت الى ما انتهت اليه.
ما جعلنا على يقين من ان عناوين الازمات ليست كافية لمعرفة اسبابها، وبنصيحة اميركية هذه المرة، انسجاما مع المثل المشار اليه.
ترى الناس ايران اليوم من خلال ساستها، ولغتهم المتحدية، وترى اميركا من خلال لغة ادارتها الممازجة بين محاولة تخويف الناس من اسلحة ايران وتخويف ايران من عاقبة سلوكها.
فالنووي والبالستي الايراني، حقيقة، ولكنه عنوان للازمة. مقنع لمن لا يريدون لإيران هذه المخالب القوية، لكن الحقيقة او المتن الذي يتخفى وراء هذا العنوان العريض، هو ان اميركا لها اهداف ابعد من ذلك بكثير.
فبهذا العنوان ابتزت دولا عدة في المنطقة، وباعت الكثير من السلاح، وكرّست نفوذها، واطلقت يد اليمين الاسرائيلي المتطرف ليرسم صورة لمستقبل اكثر سوداوية وتوترا في هذه المنطقة الملتهبة، فهي تعلن انها تريد من ايران ان تنكفئ الى داخلها، وتنهي علاقتها بمنظمات وقوى سياسية وغير سياسية، تعكس نفوذا ايرانيا غير مقبول اميركيا واقليميا، وهذا عنوان ملحق بالعنوان الابرز المتمثل بالاسلحة غير التقليدية.
وايران ترى ان لا احد في العالم يضمن لها نهاية محنتها الاقتصادية اذا ما امتثلت لذلك واحرقت اوراقها.
الشيء الذي يتناساه الكثيرون وسط هذا التجاذب، هو الشعب الايراني الذي يئن تحت وطأة حصار قاس، والازمة تجدد فصولها بطرق ماكرة، تماما كتسعينيات العراقيين.
فبين مدة واخرى كنا، وقتذاك، نجد انفسنا في مشكلة مختلقة، وبعد ان تشتد وتعلو التهديدات العسكرية تنفرج، لكن فرجا في حياة الناس لم يحصل والجوع يزداد ويشتد، فالمطلوب هو استمرار الحصار، ليصل الشعب والدولة معا الى المستوى الذي خطط له في الظلام.
لا نعتقد ان هناك حلا قريبا للازمة الاميركية الايرانية، وان ما يقال عن حلول مقترحة، يبقى للاستهلاك السياسي والاعلامي.
فالهدف ابعد كثيرا من العنوان المعلن. ملفات اقليمية كبيرة مازالت عالقة، ورؤية اميركية لمستقبل المنطقة، تستدعي صراعا مفتوحا، بين الدول وبين الناس داخل الدول نفسها، وهذا يستدعي ايضا عناوين مختلفة يقدمها لنا الاعلام كل يوم، طائفية او عرقية وغيرها، والسبب هو الانظمة التي استجابت لهذا الخراب، ومازالت تستجيب، كما لو انها مخدّرة.
المبادرات المقترحة لحل الازمة تجاهلت حقيقة كونها ناتجة عن اشكالية، والاشكالية تعني مجموعة مشاكل متداخلة، يستحيل حل واحدة منها من دون حل الاشكالية كلها، والحل اليوم بات شبه مستحيل، في ظل لعبة الاستقطاب الحاد وصراع القوى الكبرى على تقاسم النفوذ في هذه المنطقة الهشة، واعادة رسم خارطة مصالحها فيها.
المحنة تتعمق، ومأساة الشعوب المحكومة بانظمة غير معنية بمعاناة الشعوب، تتعمق اكثر.