د. هشام داود
لا أقلل من وقع ما حدث من تفجيرات لمستودعات بعض فصائل الحشد الشعبي (وهي ليست المرة الاولى، وربما لن تكون الاخيرة)، لكن الموضوع الأساسي يكمن في مكان آخر، من وجهة نظري، ولتحديده فإننا لابد لنا من معرفة التطورات الأساسية التي شهدها العراق في الأيام الأخيرة:
١- رغم اشتراك فصائل الحشد الشعبي بالعديد من الثيمات الاساسية، إلا أنه بات من الواضح اليوم، أن الحشد الشعبي منقسم على نفسه بين فصيل يعتقد أن العراق مرتبط بسلسلة معارك واستحقاقات إقليمية، وآخر يرى بأن مهمته الأولى محصورة أساسا داخل العراق.
لكن السؤال الذي يواجه هذين الصنفين من الحشد هو: هل أن العصبية المذهبية (وخصوصا العابرة منها للحدود) تشكل مبررا لتوسيع رقعة الصراع، حدّ تحويلها الى مواجهة عابرة للحدود الوطنية؟ يبدو أن الطرفين قد فشلا في الإجابة على هذا السؤال الأساسي.
ما فتح جادة واسعة أمام الدولة الوطنية لانتزاع المزيد من سيادتها المصادرة. وبكلمة اخرى: إن العراق لن يكون لبنان جديدا في المشرق العربي، فالدولة في العراق خلقت الوطنية الحديثة، في حين أبقت الطوائف في لبنان على دولة ضعيفة كشرط لديمومة النموذج.
٢- الحشد اليوم، منقسم علنا، لدرجة أنه بات يشكل خطرا على الأمن العام في نظر بعض مسؤولي الدولة.
وبالتالي فمن الملح بالنسبة اليهم فرض رقابة شديدة على فصائله، عبر "نقل السلاح خارج المدن، وإجراء تحقيق موضوعي ميداني تقوده مؤسسات شرعية..."، (كما ورد في بيان وزارة الدفاع حول التفجيرات الاخيرة).
وبكلمة اخرى: فان هناك وعيا جديدا يقول إن الحشد الشعبي قد يكون أداة مهمة للحفاظ على الأمن الوطني، ولكن هذه المرة تحت إشراف صارم من قبل الدولة، عدا ذلك ربما يتحول الحشد الى خطر، ليس على نفسه (بفعل انقساماته وتعدد ولاءاته) فقط، بل على الأمن المجتمعي أيضا، إذ ما بقي خارج شرعية الدولة أو بموازاتها.
٣- الرئاسات الثلاثة (رغم ضعفها) اكتسبت، هي الاخرى، شرعية إضافية بنظر الأغلبية، وأيضا بنظر المؤسسات الدولية، خاصة وقت الأزمات التي تعصف بالعراق والمنطقة، فبياناتها (الرئاسات الثلاثة) الأخيرة تتحدث وبالحاح عن السيادة العراقية المحسومة، ولا تراجع عنها، وعن إبعاد العراق عن النزاعات الإقليمية.
وعدم تحويله الى منطلق للعدوان على أية دولة كانت (وهذا هو أيضا موقف المرجعية والتيار الصدري، مثلما هو موقف إقليم كردستان، والعديد من القوى السياسية الممثلة للمنطقة الغربية)، وأن الامن الوطني هو شأن المؤسسات المنتخبة والمشرعنة للدولة العراقية.
وبالتالي لا سلطة فوقها ولا سلطة موازية لها.
٤- مهما قيل بحق إدارة رئيس الوزراء وحكومته للأزمة الحالية (تفجيرات بعض مخازن سلاح الحشد الشعبي)، إلا أنها أظهرت درجة من الحكمة، فهي ليست واعية لضعفها فقط، بل إنها حولت هذا الضعف الى قوة عبر الاستخدام المسؤول لتناقضات الآخرين، إن كان داخل العراق وخارجه.
الخطوة القادمة للحكومة هو تعضيد هذه المكسب السيادي باعتراف دولي، وتحويل العراق الى الضلع الثالث والضروري التي تحتاجه المنطقة لتشكيل المثلث المتوازن المكون من إيران والسعودية بالاضافة الى العراق.
وهذا لا يتحقق إلا من خلال حيادية العراق الايجابية وانتزاع كامل سيادته. هذه اللغة باتت مفهومة أكثر من لدن المجتمع الدولي، والى حد كبير من قبل الرأي العام الداخلي أيضا.
٥- نحن مدعوون لقراءة متأنية لما يحصل في الشارع العراقي هذه الأيام (والشارع الشيعي منه بشكل خاص)، حيث نلاحظ تصاعدا واضحا لموجة التضامن العراقي الداخلي أمام حالات تعسف داخلي وخارجي (كالتي تعرضت اليه سيدة عراقية في مشهد الإيرانية).
ويُخطئ من يرى أن فيها فورة عابرة، بل هي ديناميكية مكبوتة كانت تبحث عن منفذ لتعبر عن نفسها بصوت مسموع.
علينا أن لا نُخطئ التقدير عند قراءة المشهد الديناميكي هذا، فنحن اليوم أمام متغيرات عميقة ستترك بصماتها على التطورات السياسية العراقية والإقليمية في الأيام والسنوات القادمة.
* باحث بالانثروبولوجيا السياسية في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية