Skip to main content

فوكنر الروائي الذي كتب بطريق أخرى

وليام فوكنر
AvaToday caption
قد انبرى عدد من الكتاب المتحمسين لفوكنر، لإلقاء الضوء على إبداعه وخصوصية كتابته، مما جعل جمهوره من القراء ينتبهون له
posted onJuly 28, 2019
nocomment

ظن الروائي الأميركي الشاب أن مستقبله الأدبي مقضي عليه بالفشل، وبالتالي قرر ألا يكتب إلا ما يرضي ذوقه الأدبي، ودوافعه الذاتية، وألا يأبه بالتنظير النقدي الذي يؤطر لكتابة لا تنبع من ذات الأديب.

ولذا عقد العزم على كتابة روايته الثالثة "الصخب والعنف"، التي حققت أكبر قدر من النجاح بين جميع رواياته.

إنه وليام فوكنر أحد أركان الرواية الأميركية المعاصرة، مع مواطنه إرنست هيمنجواي، حيث استطاع بلورة الحياة بمختلف أبعادها، وصورها في الجنوب الأميركي، وقدمها إلى العالم كله صوراً أخاذة نابضة بالحياة.

تبدأ سيرة حياة فوكنر من خلال المحاربين الاسكتلنديين، الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر، والذين حملوا اسم "الفالكون".

وهؤلاء المحاربين أصبحوا أبطالاً لرواياته العديدة مثل الجنرال ويليام كلارك فوكنر، في رواية "سارتورس" والذي أسس أسرة كبيرة عاشت في الجنوب الأميركي وفي هذا الجنوب ولد فوكنر في 25 سبتمبر/أيلول 1897، في بلدية نيو أولباني بولاية ميسيسبي.

ولقب أبوه باسم "الكولونيل الصغير"، أما أمه فقد رزقها الله بأربعة أبناء، وكانت بمثابة الآمرة الناهية في البيت، وقد تركت أثرها على ابنها من خلال ما اتسمت به من قوة شخصية، وأيضاً بما تمتع به الصبي من استقلالية فيما بعد.

وتلقى تعليمه الأكاديمي في جامعة مسيسبي، التي عاد إليها بعد خدمته في القسم الفني التابع للقوات الجوية الكندية البريطانية، وكانت حصيلة تجاربه في الخدمة العسكرية، روايته الأولى "أجر الجندي" عام 1925، وفي العام نفسه التقى فوكنر بالكاتب يثرود أندرسون في مدينة نيوا ورليانز، واختلط بعدد من الأدباء في تلك المدينة.

مرجعيته الريفية أتاحت له أن يحشد القدر الهائل من الأحداث والشخوص، داخل النص الروائي الواحد، ليقلب منظوره في عالم (الجنوب)، ليخرج في كل مرة برؤية جديدة، مثيرة للدهشة والتأمل في آن واحد

ولم يسفر رحيل فوكنر إلى أوروبا عن شيء مهم، فلم تلهمه بكتابة جديدة مثلما حدث مع صديقه هيمنجواي، وسرعان ما عاد إلى بلاده، وانفصل عن زوجته تماماً للكتابة.

وجاءت أعماله المهمة مثل: "البعوض" و"سارتوس" و"الصخب والعنف"، و"الضوء في أغسطس" وغيرها.

وفي روايته الثانية "البعوض" عام 1927، رصد فوكنر مظاهر الوسط الأدبي في نيو أورليانز بشكل تهكمي، وقد منيت محاولاته الأولي بالفشل، إلى درجة أن دور النشر رفضت قبول روايته الثالثة، ولكن الكاتب استطاع أن يتجاوز الحصار، ويدفع بروايته الرائعة "الصخب والعنف".

ولم يلتزم فوكنر بنمط أدبي محدد أو برسم شخصيات روائية متماثلة، وكانت شخصيات رواياته خليطاً عجيباً من المكافحين والمسحوقين والآثمين والشرفاء، غير أن قدرة فوكنر تجلت في رسم هذه الشخصيات في شحنات من الخيال والواقعية والصدق إلى درجة تبعث في نفس القارئ مشاعر التفهم، لنزاعات الشخصية، وثرائها المدهش.

وقد تخيل الكاتب لنفسه منطقة خيالية، أسماها بوكتبا تاوفا، جعلها مسرحاً لأحداث أغلب هذه الروايات، وهذا لا يعني أن الكاتب انتهج الفانتازيا، ولكن أراد أن يصنع واقعه بنفسه، ففي قلب هذا العالم هناك مدينة باسم جيفرسون، رصد من خلالها كل ما يحدث في الجنوب الأميركي.

وكان لفوكنر رؤيته الخاصة لعالم هذه المنطقة، فهي معبقة بالانحلال والخطيئة، والكبت والقسوة والعنف، وقليلة هي الشخصيات السوية في هذه الروايات، وتتدافع الذكريات من رؤوس الشخصيات، ولتعلن عن تجارب قاسية وأليمة.

ولا يميل ويليام فوكنر في أعماله إلى الشرح والتفسير لما يدور، بل هو يقدم الحياة كما يحياها الناس في حياتهم اليومية، بكل ما فيها من فوضى وتناقضات.

في رواية "الصخب والعنف" حيث تحكي وقائع حياة ثلاثة أبناء من أسرة جنوبية، كأنها جوقة يتغنون، أو ينعون بما حدث لهم، وهم مصابون بحالة هيستريا، حيث تتواتر الأحداث في إيقاعها المتدفق، وما يعتمل فيها من عنف وغرابة، حيث عمد الكاتب إلى استخدام المونولوج الذي يتيح للشخوص أن تعبر عن مكنون ذواتهم.

أما روايته "الضوء والشمس" عام 1927، فتدور أيضاً في هذه المنطقة الخيالية، وتدور الأحداث المتفجرة بالصراع بين الزنوج والبيض، فالأخير يرى في الزنوج جنسا كتبت عليه اللعنة إلى الأبد، ومظاهر الشخصيات لا تعكس باطنها، حيث تنطوي على خشونة وقسوة، أما النساء فيعشن بشكل سلبي، ولا يمتلكن القدرة على الفعل.

فاز وليام فوكنر بجائزة نوبل عام 1949، ليصبح أديباً عالمياً، تترجم أعماله إلى عشرات اللغات، ومن بينها اللغة العربية، وإن كان حضور هيمنجواي أقوى بالنسبة للقارئ العربي، وقد انبرى عدد من الكتاب المتحمسين لفوكنر، لإلقاء الضوء على إبداعه وخصوصية كتابته، مما جعل جمهوره من القراء ينتبهون له، ويقبلون على مطالعة إنتاجه.

وقد شهد العقد الثاني من هذا القرن تدفق إنجازه المبدع، ليتوقف بعدها فوكنر عن التأليف في أوائل الأربعينيات، إلى درجة أن اسمه لم يعد متداولاً في الأوساط والمحافل الأدبية.

غير أنه تمكن من العودة إلى الساحة الأدبية بقوة في عام 1946، حينما صدرت له المجموعة الكاملة من رواياته في مجلد واحد، وكانت آخر أعماله "الأفاقون" عام 1962، وربما تمثل أعظم إنجاز لفوكنر في أسلوبه الروائي، وعلى الأخص استخدامه لأسلوب السرد غير المباشر، على لسان أكثر من شخصية من شخصيات رواياته، بحيث يترك للقارئ أمر تركيب الخيوط المتناثرة للقصة من وجهات نظر متعددة.

يقول فوكنر: إن مؤلفي الروايات بحاجة شديدة إلى 99% موهبة ومقدرة، و1% نظاماً عاماً، وإن على الروائي ألا يقتنع بما يكتب لأن ما حققه لا يمكن أن يكون الكمال بعينه، وإن من ضرورات عمله أن يسعى جاداً إلى الارتقاء بما يحسبه نهاية قدره، ولا جدوى من محاولة التفوق على معاصريه أو سابقيه، لأنه لا وجه للمقارنة بينه وبينهم.

ويمكن للقارئ أن يدرك مغزى الكتابة لدى فوكنر، وفهم عالمه المنفرد، من خلال القراءة الواعية للعلاقة بين حياة الكاتب وما يكتبه، إذ قال: "لست كاتباً، بل أنا فلاح"، فقد أتاحت مرجعيته الريفية، أن يحشد هذا القدر الهائل من الأحداث والشخوص، داخل النص الروائي الواحد، ليقلب منظوره في عالم (الجنوب)، ليخرج في كل مرة برؤية جديدة، مثيرة للدهشة والتأمل في آن واحد.

وفي 6 يوليو/تموز عام 1962، رحل فوكنر عن عمر يناهز الخامسة والستين، بعد انتحار صديقه الروائي إرينست هيمنجواي بعام واحد.

وبذلك شيعت الساحة الأدبية الأميركية، جيلاً مخضرماً من الكتاب ابتكر أنماط وألواناً وأشكالاً باهرة في الرواية الأميركية المعاصرة، وتجاوز آفاق المحلية والعصر الذي كتبوا من خلاله وفيه، لتتسابق الأجيال اللاحقة على قراءة أعمالهم التي لا تزال تحمل هذا القدر من الدهشة وإثارة التأمل، والانتباه لهذا الإنجاز الرائع لرواية النصف الأول من القرن العشرين.