رانيا مصطفى
وصل التحالف الاستراتيجي بين موسكو وطهران في سوريا إلى نهايته، ولم تعد لروسيا حاجة ميدانية للميليشيات الإيرانية للقتال إلى جانب قوات النظام؛ وأصبح التوغل الإيراني في فرق الجيش النظامي، وفي دوائر القرار، وفي الاتفاقات الاقتصادية مع الحكومة السورية، مصدرَ قلق كبير لموسكو، التي تريد جني مكاسب تدخلها العسكري في سوريا منفردة، وأن تكون هي المقرر الأول في سوريا.
تتوافق الرغبة الروسية في تحجيم إيران في سوريا مع كونها أيضا شرطا دوليا، لعدم عرقلة الدور الروسي في سوريا؛ وتحالف وارسو الأخير، الذي يشجّع الأوروبيين على المشاركة فيه، يعبّر عن هذا الشرط. فهو شرط إسرائيلي، تدلّ عليه الزيارات المكثفة لمسؤولين إسرائيليين (11 زيارة)، منذ 2016، وآخرها زيارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الأخيرة إلى الكرملين، الأربعاء الماضي، والإعلان عن تشكيل “مجموعة عمل” من جميع المشاركين في الصراع السوري ومن النظام والمعارضة، وبلدان المنطقة، والتي لا تزال أهدافها فضفاضة، تتلخّص في ضمان انسحاب القوات الأجنبية، ووضع آليات التسوية النهائية في البلاد.
لكنّ ما جرى عمليا في تلك الزيارة هو طيّ صفحة الخلاف الروسي- الإسرائيلي، الذي حصل بعد إسقاط طائرة الاستطلاع الروسية منذ عدة أشهر في ريف اللاذقية، وعودة التنسيق العسكري في الأجواء السورية، بعد تشغيل موسكو منظومة أس- 300. وبالتالي بات ضرب المواقع الإيرانية في سوريا مصلحة روسية – إسرائيلية مشتركة تتولى زمامها إسرائيل بتنسيق عال مع روسيا.
بعض الدول العربية كانت قد قبلت بالعرض الروسي بإعادة العلاقات مع النظام السوري، ودُرست عودته إلى جامعة الدول العربية، مقابل تحجيم دور كلّ من إيران وتركيا؛ وقد فشل هذا العرض بسبب الرغبة الأميركية في إجراء تغيير سياسي كبير في بنية النظام السوري.
وتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا هو شرط أميركي؛ فقد اتضحت ملامح تنفيذ القرار الأميركي بالانسحاب من سوريا، مع الإبقاء على 200 جندي أميركي شمالا، و200 جندي آخر في قاعدة التنف، وتشكيل “قوات سلام” أوروبية من ألفي عنصر، تنتشر في المنطقة الأمنية، لمنع عودة داعش من خلاياه النائمة، ولتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا؛ إذ يجري تنسيق أميركي- تركي حول الخطة الأميركية، بحيث تراعي مخاوف تركيا الأمنية.
وإيران منزعجة من القرارات الأميركية الأخيرة شرق سوريا، كما أنها غير راضية عن اتفاق المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، غير المشارِكة فيه، لذلك تسعى إلى تقويضها عبر دعم النظام في حملته العسكرية الأخيرة على خان شيخون ومعرة النعمان، للضغط على تركيا، التي تنسّق مع أميركا في ترتيب الوضع شرق الفرات.
أما الشرط الأميركي الآخر للسماح لروسيا بجني ثمار تدخلها العسكري في سوريا فهو البدء في مرحلة انتقالية وفق القرارات الدولية، حيث لا دور للأسد فيها؛ هذا الشرط تتولى واشنطن فرضه بنفسها مؤخرا، عبر فرض حصار اقتصادي خانق على النظام.
تمثّل الحصار في الإيعاز إلى حلفائها المحليين في قوات سوريا الديمقراطية بإيقاف ضخّ النفط والغاز إلى النظام من مناطق إنتاجه شرق الفرات، والطلب من الحكومة المصرية إغلاق قناة السويس أمام السفن الإيرانية المتجهة إلى السواحل السورية، والمحمّلة بمشتقات النفط والأغذية. وكذلك هناك حصار سياسي للنظام السوري، تمثل في سحب طلب دمشق بالعودة إلى جامعة الدول العربية، وبطلب أميركي.
كل ذلك عدا عن المضي في إقرار قانون قيصر في واشنطن، والذي سيفرض عقوبات اقتصادية على كل من يدعم النظام السوري، خاصة عسكريا.
هذه الإجراءات الأميركية الأخيرة هي التي دفعت الأسد، في خطابه الأخير أمام المجالس المحلية، إلى التنديد بالحصار الاقتصادي بوصفه مؤامرة أميركية، والتنديد أيضا بمساري أستانة وسوتشي، بوصفهما يوافقان على مشاركة المعارضة المدعومة من تركيا في اللجنة الدستورية.
هنا تتلاقى مصالح طهران والنظام السوري، حيث بات مصير الأسد مرتبطا بالتواجد الإيراني في سوريا، مع ظهور قبول روسي، أو ضرورة يفرضها الحلفاء المتدخلون في سوريا، لعدم إعطاء دور للأسد في المرحلة المقبلة. لذلك جيء بالأسد إلى طهران للاتفاق على خارطة التوزيع الميداني، الأمر الذي استفزّ الولايات المتحدة وإسرائيل والعرب، وروسيا أيضا، التي تدرك حجم المعركة الدبلوماسية الصعبة، والتي قد ترافقها مناوشات عسكرية محدودة مع فرق تابعة لإيران، من أجل تقليص دور منافسها الإيراني على امتيازات استثمار الفوسفات والغاز، وعلى الاتفاقات العسكرية. لكن ليس من السهل أن تتخلى إيران عن نفوذها في سوريا، وقد يضطرها الحصار المشدّد عليها وعلى النظام إلى خوض حرب مع إسرائيل، تشمل لبنان، لكنّها تريد هي وكل الأطراف الفاعلة تجنبها، والبحث عن حلول أخرى.
حجم التوغل الإيراني في سوريا كبير، والفاتورة التي دفعتها من أجل استثمارها السياسي والعسكري والأيديولوجي في سوريا ضخمة؛ فقد موّلت ميليشيات النظام التابعة لها، وأدخلت ميليشياتها إلى الأراضي السورية، ممثلة بحزب الله وميليشيات عراقية شيعية وغيرها. وصرفت أموالا على شراء العقارات في دمشق، وعلى عملية التشييع، في محيط دمشق وفي درعا ودير الزور وحلب وغيرها.
وبلغ الخط الائتماني لدمشق الذي وظّفته طهران لدعم النظام السوري 6 بلايين دولار، في وقت تعاني فيه إيران من أزمة اقتصادية خانقة وضغوط شعبية داخلية.
واستطاعت طهران مؤخرا تحصيل اتفاق طويل الأمد مع دمشق، يتعلق بإعطائها امتيازات لها علاقة بالإعمار والمشروعات الاقتصادية، مقابل توريد مساعدات نفطية وغذائية للنظام. وبالتالي لإيران ديون على حكومة الأسد، وذهابُه يعني فقدان ما صرفته في سوريا، لذلك هي تدعَم بقاءه حتى النهاية.
روسيا تعمل بالتدريج على سحب البساط من تحت إيران في سوريا، في خطوات هي أقرب إلى النحت في الصخر، من خلال ما تبنيه من جيش مواز قوامه الفيلق الخامس والسادس من فصائل المصالحات، وكتائب سهيل الحسن.
ومؤخرا تواصلت روسيا مع فصائل المعارضة التي تدعمها تركيا في إدلب، بالتوافق مع تركيا طبعا، للمصالحة والقبول بالحل السياسي تحت نفوذها، مقابل تحجيم إيران، وإجراء تغيير سياسي.
لذلك تسمح روسيا للنظام بقصف إدلب، كنوع من الضغط على تركيا لتسريع حل المعضلة الجهادية وتطويع الكتائب للقبول بالحلول الروسية التركية المشتركة.
كاتبة سورية