سعد القرش
إلى الآن، يحتفل المصريون بذكرى “الأربعين”. ميراث شعبي عام لا يفرق بين أحد من أتباع الرسل والمذاهب، ولم يغيّره تراكم الأديان وتوالي الغزاة. وكانت طقوس التحنيط، وإعداد الميت للدار الآخرة، تستغرق أربعين يوما، يكون بعدها قد تم تجهيزه للخروج إلى النهار، إلى الأبدية. وأقصى ما كان الخميني يحلم به، في الذكرى الأربعين لقيام جمهوريته، أن ترفع صورته ولو في البصرة. وأصدق وأفكه ما ينسب إلى أنور السادات قوله إنه قرأ القرآن ولم يعثر في آياته على آية الله الخميني. وأكثر ما يسيء إلى ذكرى الإمام الحسين أن يتحول تمرده الثوري من الطموح إلى تحقيق العدل السياسي إلى ابتداع فقه باسم الدين، وترسيخ قواعد مذهب يسمو إلى مرتبة العقيدة التي انتظرت 14 قرنا، لكي تتجسد في دولة تثأر.
وقبل حلول هذه الأربعين، تماما بعد 34 عاما وبضعة أيام على عودة الخميني إلى إيران في ضيافة طائرة فرنسية، كاد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يقلد الجنرال الفرنسي هنري جورو، في دمشق عام 1920 أمام قبر صلاح الدين. قيل إن جورو وضع قدمه على القبر، وقيل إنه ركل الضريح، وقال شامتا متشفيا “ها نحن عدنا يا صلاح الدين”. ولم يكن السياق مناسبا لأن يكرر نجاد نص تلك المقولة، الثلاثاء 5 فبراير 2013، حين زار شيخ الأزهر، وتخلى عن الوقار الرئاسي في حضرة الشيخ أحمد الطيب، واكتفى برفع علامة النصر، قبل أن يتوجه إلى مسجد الإمام الحسين. وكانت زيارة نجاد بمناسبة مشاركته في قمة منظمة التعاون الإسلامي، 6 فبراير 2013.
وقد اتسع وقته يوم انعقاد القمة لزيارة مسجد السيدة زينب، وحلا له أن يعيد مشهد رفع اليد بعلامة النصر ملوّحا للجماهير، وفاته أن صلاح الدين في الضمير الجمعي بطل شعبي، ولا ينشغل المصريون بأنه أبطل كل المظاهر الفاطمية الشيعية، ومنع إقامة الصلاة في الجامع الأزهر وأغلقه، واستمر ذلك نحو مئة عام، إلى أن أعاد الظاهر بيبرس فتحه للصلاة.
في سلوك نجاد، وأداء إيران الخميني عموما، ادعاء بأن إيران تمثّل الشيعة في العالم، استغلالا لرخاوة جوارها وهشاشة محيطها الإقليمي، فتُوهم دولة الفقيه بأن قم، وليس النجف، هي المرجعية الشيعية، وتتجاوز حقيقة تاريخية ومذهبية لا يصح فيها استقواء مرحلي بدا، آنذاك، لنجاد عابرا للقارات، إلى أفريقيا، وهو لا يدرك ما وراء السطح الشعبي المصري، فأخذته نشوة نصر متخيّل بأنه ينتقم من صلاح الدين، ويفتح مصر أمام مواطنيه، مواطني نجاد، للتبشير وزيارة أضرحة آل البيت.
وما وراء الواجهة حقائق مركَّبة، من السذاجة تبسيطها، فالاحتفالات بموالد آل البيت في القاهرة تشدّ إليها الرحال من عموم مصر، وتوحي بأنها بلد شيعي، فلا نكف عن زيارة أضرحة آل البيت يوميا.
ومنذ بضعة أشهر، في صيف 2017، انتظرت صديقا عراقيا في ميدان السيدة زينب، كان قادما من بلد أوروبي، وألقى نظرة على أضواء الجامع والميدان ومريدي السيدة، وتساءل: هل نحن في النجف؟ فقلت: لو جئت ليلة المولد، فسوف تظن أنك في كربلاء، منقوصا من الاحتفالات مشاهد الدم، فقط مدائح وعشق لآل البيت؛ فلا يعرف المصريون أنهم سنّة، ويسمعون اسم الإمام أبي حنيفة وقت عقد الزفاف، يتزوجون على مذهبه، ولا يعنيهم أنهم شافعية، ولديهم قدرة على صَهر الغزاة والأعراق واستيعاب الأديان والمذاهب والأفكار.
والإسلام المصري أسبق من الأزهر بأكثر من 330 عاما، والذين دفعوا الإسكندر الأكبر إلى إعلان بنوّته للإله آمون، راقبوا المدّ الفاطمي الشيعي، ولم يزعجهم أن ينزع صلاح الدين هذا القناع؛ فلا كانوا شيعة ولا أصبحوا سنّة، وإنما هم مسلمون وكفى، ولا يلتفتون إلى حقيقة أنهم سنة مذهبا، شيعة هوى، وغير ذلك من تنظيرات لا تنتبه إلى أن الإسلام المصري، قبل المدّ السلفي منذ السبعينات، فوق التصنيف المذهبي، وأن أغلبية المصريين لم يسمعوا بهذه الثنائية إلا بعد صعود الخميني عام 1979.
تزامن صعود الخميني مع الصعود الثاني لتنظيم الإخوان في مصر. أراجع الآن مجلة “الدعوة” لسان حال الجماعة، وأستعيد معها صبيا كنتُه، ينتظر صدور “الدعوة” أول كل شهر هجري، ويترقب إعلان “الدولة الإسلامية” في مصر تيمنا بنجاح دولة الخميني في إيران. في العدد رقم 423 (شعبان 1400، يونيو 1980) خصص باب “وطننا الإسلامي” صفحتين للسيد محمد علي الشيرازي ابن آية الله الشيرازي، وقد وصفت المجلة الشيرازي الابن بأنه “يقود الحركة الإسلامية ضد حكم البعث العراقي”.
وقال “صلتي بالإخوان المسلمين قديمة ترجع إلى عام 1958، ونحن نؤيد الإخوان المسلمين على أساس أنهم حركة إسلامية تعمل من أجل إقامة النظام الإسلامي”. ولم يكن يخاف على مصير الثورة؛ لأنها “ثورة مؤيدة من قبل الله، إنها معجزة الله”، وهم يحاربون صدام حسين لأنه “بعثي.. فحزب البعث يكفي أن أحد مؤسسيه هو ميشيل عفلق!”. وشغلتني علامتا التعجب فعدت إلى أعداد سابقة، بحثا عما يخص عفلق، وصادفني في العدد رقم 413 (رمضان 1399، أغسطس 1979) إعلان عنوانه “مفاجأة كبرى: محلات أبوالنيل تتعاون مع المسلمين في شهر رمضان المبارك بخصم 10 بالمئة أحذية وشنط”، وليس ذلك الإعلان مقصدي، وإنما الصفحة التالية وفيها اسم عفلق ضمن استعراض للحروب على الإسلام، “والكيد لدعاته.. والتشكيك فيهم”، وتنطلق الرماح فتطعن حكاما ومفكرين وأيديولوجيات، “ولم تعد الاشتراكيات والقوميات في أذهان الناس إلا أساليب للنصب والخداع”، وأما ميشيل عفلق فهو “الصليبي الحاقد”. وفي العدد نفسه مقال آخر يصف عفلق بأنه “نصراني من نصارى اليونان”.
وفي العدد التالي (شوال 1399) قال آية الله صادق خلخالي رئيس المحاكم الثورية الإيرانية، في مقابلة مع جابر رزق حول أحكام بالإعدام أصدرها بحق الكثيرين، إنهم “كانوا مجرمين ومفسدين في الأرض ومحاربين لله ولرسوله… كافرين بحكم الله معاندين للإسلام عملاء للإمبريالية العالمية والصهيونية”.
هكذا كان التواصل الخميني الإخواني والمتابعة الصحافية لمراحل الثورة ورجالها، وإزاحة أي غبار تثيره ولو شائعة، إذ نشر عدد ديسمبر 1980 رسالة، في بريد القراء، يزيل فيها مواطنون إيرانيون التباسا لدى “بعض إخواننا المسلمين من مصر وغيرهم” يظنون أن الإيرانيين يهتفون “الله أكبر، خميني أكبر”، لعدم درايتهم باللغة الفارسية، وحقيقة الهتاف أنه “الله أكبر، خميني رهبر” وتعني القائد.
في ذكرى الأربعين، وعلى الرغم من سقوط الحليف الإخواني في مصر، ترتفع صورة الخميني في أربع عواصم عربية، ولم يكن ذلك ليحدث إلا “بعد خراب البصرة”، حقيقة لا مجازا.
مع صعود الخميني، أصدرت دار نشر يسارية في القاهرة، 1980، كتاب “نظرية الخلافة الإسلامية”، في نقض نظرية الإمامة، ولا أظن مؤلفه محمد عمارة أعاد نشره، ولكنه يستحق وقفة مستقلة في المقال القادم.
روائي مصري