يظن المتفائلون من المتفردين بالكتلة الشيعية الأكبر في البرلمان العراقي، بأن تشكيل الحكومة الجديدة المرتقبة قد حان بعد انسحاب نواب التيار الصدري الـ73 بأمر من زعيمهم مقتدى الصدر.
وكان نواب التيار الصدري يشكلون الكتلة الأكثر عدداً في البرلمان الحالي، لكن إصرار زعيمهم على تشكيل "حكومة غالبية" نيابية وليست توافقية شيعية، كما في الحكومة المقبلة، فجر خلافاً عميقاً انتهى بانسحابه ونوابه من المشهد السياسي.
الانسحاب جاء بعد أن أدرك الصدر أن الانسداد هو المصير الحتمي أمام مشروعه تشكيل حكومة "التغيير الشامل"، التي أرادها من دون الشركاء الشيعة الآخرين، ممن وصفهم بالفاسدين، ويعني بذلك خصوم0ه الولائيين من الشيعة الذين يقودهم نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق، زعيم تحالف الإطار التنسيقي وائتلاف دولة القانون.
وبعد محاولات حوار خاضتها القوى الشيعية جميعاً، أدرك الصدر ونوابه أن راعي الإطار التنسيقي وعرابه الإيراني لن يقبلا إلا بـ"حكومة توافقية" تمثل المكون الشيعي، مع إبقاء الانشطار العرضي في إدارة الدولة والحكم وفق نظام المحاصصة السياسية المتبعة، التي أسس لها دستور عام 2005، وفرض تقسيمياً إثنياً طائفياً شيعياً سنياً كوردياً، وأرسى عرفاً في توزيع الرئاسات الثلاث، التي تحكم البلاد بعد عام 2003 بمنح منصب رئاسة الوزراء للشيعة ورئاسة البرلمان للسنة العرب، ورئاسة الجمهورية للكورد، على غير ما اعتاده العراقيون طيلة العهدين الملكي والجمهوري (1921- 2003).
وبذل الولائيون جهداً مضنياً لإقناع الصدر ونوابه بضرورة إبقاء المكون الشيعي موحداً، ليكون هو من يمتلك قرار الغالبية النيابية القادر على قهر الخصوم من الشركاء عند اتخاذ قرارات أو عند إبطال أخرى، من دون جدوى، حتى إعلان المالكي وحلفائه الخمسة في الإطار التنسيقي، كونهم أضحوا الكتلة الأكبر التي أوكلت إليها مهمة تشكيل الحكومة الجديدة المبنية على توافقات جديدة مع الشركاء السنة والكورد، الذين يوصفون وفق المثل الشعبي العراقي "وجوه متوالفة وقلوب متخالفة".
الإطار التنسيقي الشيعي كشف عن أعضاء لجنة كتابة البرنامج الحكومي، بحيث ذكر مصدر في الإطار التنسيقي، رفض ذكر اسمه، أن "جل اللجنة المكلفة من قبل المالكي، بصفته رئيس الكتلة الأكبر، من قيادات الصف الثاني في الأحزاب، والتيارات السياسية الشيعية المشاركة في الحكومة المقبلة، إلى جانب تخصصهم الأكاديمي والعلمي، مضافةً إليها خبراتهم العملية لضمان كتابة برنامج حكومي حقيقي يتناغم ومتطلبات الفرد العراقي".
والمعنيون بكتابة البرنامج الحكومي، كما أعلن، ثمانية أعضاء ينتسبون لثماني جهات سياسية تتألف منها الحكومة المقبلة، تمثل القوى الشيعية في الإطار التنسيقي الشيعي وهم: ائتلاف دولة القانون وتحالف الفتح وحركة العصائب وتيار الحكمة، إضافة إلى حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني وتحالف العزم السني، إلى جانب بعض القيادات في القوى الشيعية الأخرى وممثل عن المستقلين في البرلمان.
وأفادت التسريبات بأن البرنامج الحكومي يركز على تلبية متطلبات المرحلة التي يعيشها المجتمع العراقي المأزوم بالبطالة والفساد وتغييب القوى المعارضة، إذ يرى القائمون على كتابته ضرورة معالجة ملف البطالة من خلال إيجاد فرص عمل حقيقية تتمثل في استثمار حركة عمل الملاك الوظيفي في جميع المؤسسات ومنح الدرجات الشاغرة بسبب السن القانونية للتقاعد وتوسيع المشاريع الاستثمارية وتحديد ضوابط عمالتها من خلال التزامها تشغيل ما نسبته 90 في المئة من العراقيين قبالة (1-10) عمالة أجنبية، بالنسبة إلى الشركات الأجنبية، أما الشركات الاستثمارية المحلية، فستكون ملزمة بالبند أعلاه من دون هامش لأي عمالة أجنبية.
وهذا الملمح الرئيس لما ورد في خطة الحكومة الأولية، التي جاءت مرتبكة وغير مجدية، أمام التحديات الكبرى التي تواجه المجتمع جراء الموازنة التشغيلية لعشرة ملايين موظف ومتقاعد يشكلون 60-70 في المئة من موازنة البلاد، على حد قول المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة الحالي مظهر محمد صالح.
غير أن رئيس الكتلة النيابية الأكبر في الإطار التنسيقي نوري المالكي يرى "ضرورة الإسراع في تشكيل الحكومة، واستكمال بقية الاستحقاقات الدستورية المتعلقة بمنصبَي رئاسة الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء"، وأشار إلى أن لجاناً تتولى إجراء المفاوضات مع القوى الفاعلة في العملية السياسية"، معرباً عن أمله في أن تتوصل إلى نتائج تفضي إلى إظهار ملامح الحكومة الجديدة.
لكن رئيس مركز التفكير السياسي في العراق إحسان الشمري قال في حديث صحفي إن "هناك تحديات عدة تواجه الإطار التنسيقي بعد انسحاب الصدر، جراء الخلافات التي تدور ما بين أطراف الإطار نفسه حول شخص رئيس الوزراء وتوزيع الحقائب الوزارية ومنصب النائب الأول لرئيس البرلمان، وهذا يعقد المشهد أمامهم، إضافة إلى قضية التفاوض مع القوى السنية و الكوردية، بالتالي سيجعل الإطار التنسيقي مستعداً للقبول بتنازلات كثيرة جداً. قد تكون على حساب الدستور العراقي".
وأضاف أن "هناك قضية وجود جمهور وأتباع لمقتدى الصدر غاضبين جداً نتيجة عزله وإقصائه، فلا مؤشرات إلى إمكانية تشكيل الحكومة جراء هذه التحديات وسواها، بل حتى مع المضي على فرضية الحكومة تشكلت، فإنها لن تصمد أكثر من مدة ستة أشهر، لذلك الحديث يدور حول هل تصمد أم لا تصمد؟".
ويرى الشمري وعدد من المراقبين أن هناك إشكاليات كبيرة ستواجه أي حكومة تقوم على المحاصصة، التي لم تنتج حلولاً لأزمات العراق المستحكمة جراء فساد السلطات المتعاقبة، وأن الحكومة المقبلة ستواجه الشارع العراقي عموماً غير الشارع الصدري، كما ستواجه الشارع المدني الليبرالي العلماني، الذي يرجح أنه سيكون غاضباً بشكل كبير بسبب استمرار وتدوير الفاسدين في الدولة، كما توقعوا عدم قدرة الحكومة المقبلة على تقديم فارق على مستوى الخدمات أو ملف الطاقة والكهرباء والماء والصناعة والزراعة، بل حتى على مستوى العلاقة مع إقليم كوردستان.
وأوضح "لن تكون هناك قدرة على مواجهة التحديات، بالتالي لن تستطيع الحكومة المقبلة أن تنجز ما يمكن أن تضعه من برنامج حكومي، الذي يقع في باب المناورة ومحاولة لإشغال الرأي العام والتهدئة والتخدير السياسي للمواطنين، بالتالي من دون نتائج".
وتبقى إشكالية منصب رئيس الحكومة، إذ أورد الإطار التنسيقي أنه سيكون بالتصويت كآلية مرجحة لاختيار رئيس مجلس الوزراء المقبل، في وقت يجري الترويج لإعادة المالكي بتولّي المنصب للمرة الثالثة.
ويذهب الكاتب قاسم الغراوي إلى القول إن "الغالبية من قادة الأحزاب في العراق تبحث عن مغانمها ومكاسبها، بعيداً من المسؤولية الوطنية، فالانتخابات الأخيرة أفرزت واقعاً سياسياً متناقضاً، بحيث انشطرت الأحزاب طولياً ووسعت الفجوة بينها، في وقت يسعى المالكي إلى تقديم نفسه رئيساً للوزراء، بينما يسجل أقرانه من الخط الأول اعتراضهم بطرح فكرة أخرى، وهي عدم تدوير الوجوه واختيار شخصيات تتفق عليها الكتل السياسية كافة، على أن تكون شخصية مهنية وقوية وجديدة، قادرة على تجاوز المحنة والتحديات بقيادة حكومة خدمية بامتياز".
بدوره، يرى الكاتب حيدر زوير أن "دعوات نوري المالكي إلى الصدر للمشاركة في الحكومة المقبلة لم تحظَ بردّ إيجابي، فمن استقال من الكتلة الأكثر عدداً لن يقبل ببضعة مناصب وزارية، لكن هذه الدعوة تؤشر إلى ارتفاع قناعة الإطار بأن المضي في تشكيل الحكومة من غير الصدر أمر غير ممكن، وأن الخيارات المتاحة جميعاً معقدة".
ويتوقع زوير تشكيل "حكومة إنقاذ وطني تتولى عمليات تغيير قوية أو عودة حركة تشرين خلال عامَي 2023 و2024، وهو ما سيكون بمثابة مواجهة مع الجمهور الناقم أصلاً".
وعلى الرغم من سخاء الوعود المقدمة من جانب قوى الإطار، التي تبشر بتبنّي قضايا الجمهور، فإن الصدام حتمي مع التيار الصدري الغاضب، الذي وجد نفسه مقصياً على الرغم من فوزه بالغالبية.
ويتوقع الشمري "صداماً واحتكاكاً ما بين الصدريين والحكومة المقبلة، حتى الأحزاب الأخرى أتباع الصدر لا أتوقع بأنهم سيكونون مقتنعين بانكسار الصدر وإقصائه سياسياً. ولذلك، أتوقع الذهاب نحو تظاهرات واختراق المنطقة الخضراء والعصيان المدني لحين حل البرلمان وإسقاط الحكومة، التي أعتقد أنها ستكون حاضرة على اعتبار أن الصدر ذهب باتجاه المعارضة الشاملة، لا سيما أن التظاهرات مكفولة دستورياً، لهذا أتوقع لحظة صدام مدوٍّ".
وتظل غالبية الترجيحات لخبراء ومتابعي السياسة في العراق تتوقع عدم قدرة الحكومة المقبلة على الاستمرار في إدارة البلاد أكثر من ستة أشهر، ما يفتح الباب أمام حكومة تصريف الأعمال، التي يقودها مصطفى الكاظمي، للاستمرار بعد سلسلة النجاحات التي حققتها.