Skip to main content

تقريران لمكيافيلي لم ينشرا إلا بعد رحيله

نيكولو مكيافيلي
AvaToday caption
يشير مكيافيلي إلى هذا الواقع ينطلق منه للحديث بالتفصيل عن الأوضاع السياسية والاستراتيجية لكل واحد من البلدان والمناطق المجاورة لفرنسا
posted onJuly 3, 2022
nocomment

في عام 1508، كان الكاتب والسياسي الإيطالي الموصوف عادة بـ"الداهية" قد وضع تقريراً عن مشاهداته خلال رحلات عديدة قام بها إلى العديد من المناطق والمدن الألمانية. ولعل "السرية" الدبلوماسية التي أحاطت بإعداده تقاريره عن تلك الرحلات التي من المؤكد أنه قام بها لحساب السلطات الإيطالية التي كان يتعامل معها في ذلك الحين وقادته إلى بلاط الإمبراطور ماكسيميليان في إينزبروك، جعلته يعود وفي جعبته أفكار وملاحظات حول العلاقات القائمة التي يمكن أن تقوم مع ذلك الإمبراطور، ولكن كما يبدو تحت غطاء حديث عن رحلته صاغه لنفسه ولعدد من أصدقائه يعرفهم فيه عن أحوال تلك الديار المجاورة.

ثراء المدن الفاحش

والحقيقة أن ما أثار دهشة الكاتب الذي كان حينها في سبيله لصياغة ما سيعتبر لاحقاً مؤلَّفه الأساسي "الأمير"، وعلى الأقل كما عبر في الجانب الظاهر من تقريره، إنما كان الثراء الفاحش الذي رصده في المدن الألمانية سواء تلك التي زارها أو الأخرى التي اكتفى بالمرور بها. ومن الواضح أن ذلك النص قد لعب دوراً كبيراً في تعرف السلطات السياسية الإيطالية على أمور لم تكن واضحة بالنسبة إليها في ألمانيا تحت حكم ماكسيمليان.

وبهذا يكون نيكولو مكيافيلي قد أنجز نصف "مهمته"، أما النصف الآخر المتمثل في عرض مشاهدته لأصدقائه وللنخبة الإيطالية المثقفة عموماً، فكان ينبغي أن ينتظر ربع قرن آخر قبل أن ينجز وينتظر تحديداً ظهور التقرير على شكل كتاب في عام 1532 بعد موت مكيافيلي بخمس سنوات. والحال أن ذلك كان كذلك مصير التقرير التالي الذي أعده مكيافيلي نفسه في عام 1510 هذه المرة، أي بعدما أنجز التقرير الأول، ليتناول به "شؤون فرنسا" وذلك، وهنا مرة أخرى، إذا كان الكاتب قد أنجز التقرير في ذلك الزمن المبكر نسبياً فإنه لم يُنشر إلا بعد 22 سنة أي في العام نفسه الذي نُشر فيه "تقرير عن شؤون ألمانيا". وهنا، لا بد من أن نشير إلى ما لاحظه النقاد من قارئي التقريرين في وقت واحد تقريباً من أن تقرير مكيافيلي عن فرنسا وشؤونها جاء أوفى وأعمق كثيراً من تقريره عن الشؤون الألمانية. والسبب بسيط على أي حال.

معرفة عن كثب

فهنا، في هذا التقرير "الفرنسي"، عمد مكيافيلي إلى استعادة وتطوير تقرير سابق له كان قد ظهر من قبل وقرئ على نطاق واسع، لكنه هذه المرة بدا موسعاً ومسهباً على عكس ما كانت عليه الحال بالنسبة إلى التقرير "الألماني"، والسبب هو أن مكيافيلي كان يعرف فرنسا بأكثر كثيراً مما يعرف ألمانيا. ناهيك بأنه كان يحب فرنسا ويعرف كيف يتجول في أرجائها وكأنه في دياره على عكس حاله مع ألمانيا. ومن المعروف أنه كثيراً ما كان يزورها. من هنا، حين راح يصفها مزج تلك المعرفة المسبقة بالمشاهدات الجديدة التي ارتبطت هذه المرة بمهام سياسية ودبلوماسية عُهد بها إليه وشكلت في نهاية المطاف جزءاً من محتوى كتابه لكنه كان جزءاً يتقاسم الصفحات مع الجزء الآخر الذي يبدو هنا أكثر أهمية بالنسبة إلى الكاتب الدبلوماسي الذي شاء التعبير هنا عن ثقافته العميقة التي لم يكن ليهتم كثيراً بالتعبير عنها في تقريره "الألماني". من هنا، نراه يوازن بين الجانب الموضوعي من نصه والجانب الذاتي الذي بدا واضحاً أنه يصوغه بمتعة فائقة.

تماسك لمئات السنين

إذاً، في التقرير "الفرنسي" يهتم مكيافيلي قبل أي شيء آخر بوصف التوزع والتشكل السياسي لهذه المملكة التي مكنته البعثات العديدة التي قام بها إليها من التعرف عليها بشكل تفصيلي والإطلاع على مكامن القوة فيها. والأمر الذي يحرص الكاتب هنا على سبر أعماقه إنما هو قوة هذا التاج المركزي الذي ترتبط به وتتكل عليه كل الأراضي الشاسعة التي تشكل "جغرافية هذه المملكة" والمناطق التي تخضع كل منها على حدة لسلطة النبلاء الإقطاعيين الذين يخضعون بدورهم، وكل منهم على حدة أيضاً، لسلطة العرش الملكي، هم الذين "يجري الدم الملكي في عروقهم جميعاً".

من هنا، بحسب تحليل مكيافيلي، وحدة هذه المملكة والتماسك المدهش الذي تعرفه دولتها، تماسك يحول دون تفكير أي من جيرانها بتهديدها بأي شكل كان. وإذ يشير مكيافيلي إلى هذا الواقع ينطلق منه للحديث بالتفصيل عن الأوضاع السياسية والاستراتيجية لكل واحد من البلدان والمناطق المجاورة لفرنسا موضحاً، بالاستناد إلى حال كل بلد من هذه البلدان من النواحي الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية، نقاط ضعفهم تجاه فرنسا، التي تجعلهم يسعون دائماً إلى اتقاء شرها بإبداء الصداقة لها حتى وإن كانوا لا يخفون كونها عدوة لهم. عدوة لا بد من مراعاة قوتها وجبروتها القائمتين على تماسكها الذي يشير إليه. ولكن، من أين تأتي تلك القوة الثابتة التي جعلت فرنسا محافظة على قوتها وتماسكها منذ مئات السنين، فيما طالت أمماً غيرها تغيرات تبدت جذرية ومدمرة في أحيان كثيرة؟

العامل الاقتصادي

صحيح أن مكيافيلي يلح على قوة العرش وتعلق الإقطاعيين به، على الرغم من مناوشات من هنا وأخرى من هناك، وعلى الرغم من تطلع البعض بين الحين والآخر إلى صعود لا يمكن أن يتم إلا من وراء ظهر ذلك العرش، غير أن الكاتب الذي يعرف كيف يراقب الأمور عن كثب وبعيداً من التسرع والارتكاز إلى فكر أحادي، سرعان ما يفيدنا بأن القمة القتالية التي تتمتع بها النبالة الفرنسية على صعيد الأداء الفردي تلعب دوراً كبيراً في ذلك كله "حتى لو كان يمكن لفرنسا أن تدبر أمورها من دون اللجوء إلى تلك القوة طالما أنها تمتلك جيوشاً جرارة تزودها دائماً بأحدث المعدات"، وبخاصة في ذلك الزمن، قوة مدفعية يمكنها أن تتفوق على القوة المماثلة التي يمتلكها جيرانها، سواء أكانوا إسبانيين أو ألماناً أو سويسريين.

ولعل العامل الحاسم في هذه القوة هو قدرة الدولة الفرنسية على الإنفاق غير المحدود عليها. وذلك بالتحديد، في رأي الكاتب، "بفضل الثروات الهائلة التي تراكمها من الزراعة خصوصاً، الزراعة التي تجعل من هذه الأمة واحدة من أغنى الأمم في العالم". ففرنسا هي من الأمم القليلة التي يمكنها الاكتفاء بما تنتج وتسويق ما يفيض عنها لإنفاقه ليس على التسلح والعسكر فحسب، بل حتى على المجتمع واحتياجاته، على الدولة وموظفيها، وعلى الكنيسة التي يجعلها هذا الإنفاق في خدمة الدولة ومشاربها. والحقيقة أن مكيافيلي حتى وإن لم يكن المفكر الأجنبي الأول الذي رصد كل تلك الوقائع، فإنه كان من أوائل الذين أسبغوا على وصفهم وتحليلهم لها طابعاً علمياً موثقاً، بالأسلوب نفسه الذي سيفتن عصوراً بأسرها ستقرأ كتابه "الأمير" وتتغنى بعمقه وحداثته وتعيد اكتشافه زمناً بعد زمن.

من "فن الحرب" إلى "الأمير"

في المقابل، حتى وإن كان "التقرير الألماني" لا يبتعد كثيراً عن دقة المعلومات وعمق التحليل اللذين يطبعان ذاك "الفرنسي"، سنجد الكاتب هناك مبتعداً عن السمة الذاتية التي طبعت حديثه عن فرنسا. فهنا، يغرق أكثر في التفسيرات الاقتصادية والعلمية من دون أن يبدي أي قدر من التعاطف والإعجاب الخاصين. وهو في هذا الإطار يحدثنا عن القوة الصناعية للألمان وقدرتهم على الابتكار. ويتوقف عندما يعتبره من الفضائل الموضوعية لدى هذا الشعب: المثابرة وحب العمل، وانطلاقاً من هنا حرصه على عدم إنفاق مدخراته واستنكافه عن صرف أي قرش على ما لا يفيد.

صحيح أن الكاتب يحدثنا هنا عن التشابه في هذا الأمر مع الفرنسيين، لكنه يستطرد أن هؤلاء الأخيرين وعلى الرغم من حرصهم على التوفير، لا يتورعون عن الإنفاق بسخاء على عطلهم ونهايات الأسبوع وعلى ملذاتهم الشخصية، فيما الألمان يحرمون أنفسهم من هذه المتعة مفضلين استثمار ما يملكون في ما يعود عليهم بأرباح إضافية. ولعل مكيافيلي يعزو هذا الأمر، ولو مواربة إلى عدم الاستقرار السياسي في ألمانيا حيث النزاعات دائمة بين المناطق والأمراء، ما يدفع الناس غالباً إلى توفير قرشهم الأبيض ليومهم الأسود! ومن الواضح أن الاهتمام الذي يبديه الكاتب بقضية الصراعات والتسلح في ألمانيا في ضوء تلك الوضعية المفتقرة إلى الاستقرار، كان نوعاً من التمهيد لكتابه المقبل "فن الحرب"، تماماً كما كان إمعانه في الحديث عن قبض العرش الفرنسي على السلطة بيد من حديد، تمهيداً لكتابه "الأمير".