على الرغم من التدخل الإيراني في الشأن العراقي وحديث المسؤولين في طهران طوال الأعوام الماضية عن الوضع في العراق ودورها في حرب الإرهاب والتقريب بين حلفائها في بغداد، إلا أن غالبية التصريحات كانت تأتي من مسؤولين غير رسميين، باستثناء ما يخص تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) 2019 الشعبية التي هاجمها بشكل مباشر عدد من المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم المرشد علي خامنئي.
إلا أن تصريح السفير الإيراني في بغداد إيرج مسجدي، الذي سيغادر البلاد خلال أيام بعد انتهاء عمله، والذي دعا فيه الحكومة العراقية إلى التفاوض مع الفصائل الشيعية المسلحة بدل الاختلاف معها، كان الأكثر وضوحاً في مجال التدخل الإيراني المباشر في الشأن العراقي، ما يبعث رسالة عن فشل طهران في إقناع حكومة مصطفى الكاظمي بتقديم تنازلات لهذه المجموعات المسلحة.
وقال مسجدي إنه ينصح الحكومة العراقية بالتفاوض مع "فصائل المقاومة وتجلس معها لترى مطالبها بدل الصراع والنزاع"، لافتاً إلى أن "ليست لدى الفصائل مشكلة مع الحكومة العراقية وإنما مع أميركا، إذ تعتبر الوجود الأميركي داخل العراق تهديداً لها وتهديداً لأمن المنطقة". وأضاف أن "فصائل المقاومة اليوم هي أمر واقع داخل المشهد السياسي العراقي وبغض النظر عن موقف أميركا وغيرها"، داعياً "التيار الصدري" و"الإطار التنسيقي" إلى التوافق.
وبدت تصريحات السفير الإيراني رسالة واضحة لكل الجهات السياسية العراقية والحكومية التي تدعو إلى نزع سلاح هذه الميليشيات وتقنين عملها المسلح، فضلاً عن رفض طهران المباشر لأي حكومة غالبية في العراق تُشكَّل من قبل زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر وحلفائه زعيم "الحزب الديمقراطي الكوردستاني" مسعود بارزاني ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي.
وكانت الحكومة الإيرانية أعلنت خلال الأيام القليلة الماضية، تعيين محمد كاظم آل صادق سفيراً جديداً لها في العراق، خلفاً لإيرج مسجدي. وآل صادق هو قيادي بارز في "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري ومن مواليد مدينة النجف العراقية، من أسرة دينية إيرانية، ويتحدث اللغة العربية واللهجة العراقية بطلاقة ويشغل منذ أعوام منصب النائب الأول للسفير الإيراني في بغداد.
وتعليقاً على التعاطي الإيراني بالشأن العراقي، قال الباحث السياسي والأكاديمي عصام الفيلي إن "أول شروط مقتدى الصدر، هو نزع سلاح كل الفصائل الذي بات يقلق جهات عدة، لا سيما الجهات العقائدية التي تؤمن أن سلاحها يجب أن يكون عابراً للحدود".
وأضاف أن "إيران تجد أن موضوع التفاهم بين الصدر والفصائل، هدفه تعزيز مكانة هذه الفصائل أو الجهات لتكون جزءاً من القرار السياسي في المستقبل، إذا كان هناك اتفاق"، مبيّناً أن "الموقف أو الجمود الذي تمر به العملية السياسية، ولّد مخاوف لدى الإيرانيين من أن يؤدي إلى نتائج عكسية، تجرّ إلى مواجهة مسلحة بين المكونات الشيعية".
وأوضح أن "هذا الأمر لا تريده إيران، إذ ربما يفضي إلى انتفاضة جماهيرية تقوض الوجود الشيعي برمّته".
وذكر الفيلي أن "إيران تريد أن تكون الحكومة المقبلة شيعية مئة في المئة واستكمالاً للحكومات السابقة، فيما يريد الصدر حكومة وطنية عابرة للمكونات، وبذلك تكون عابرة للمناصب الوزارية"، مؤكداً "وجود تناقض بين رؤيتين، رؤية تقليدية تدعمها إيران ببقاء النمطية السائدة ونظرية يطرحها السيد الصدر، وهو ما يمثل صراعاً بين مشروعين".
بدوره، اعتبر مدير مركز العراق للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل، استبعد أن "يتقارب التنسيقي والصدر لوجود خلاف جوهري يتعلق بقضية نزع سلاح الفصائل".
وقال إن "الدعوة الإيرانية تشكل تدخلاً خطيراً في سيادة العراق، لا سيما أن بعض الفصائل متهمة بقصف أربيل وقاعدة عين الأسد ومقر الاستخبارات العراقية بالصواريخ تحت شعار مواجهة الاحتلال".
وتساءل فيصل عن "شكل التفاوض مع ما يُسمّى بـ’المقاومة الإسلامية"، وهل سيكون من أجل أن تكون شريكاً في السلطة أو لتحديد شكل علاقة الحكومة العراقية بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؟"، مستبعداً أن توافق بغداد على التفاوض "وقبول الشروط التي تمثل الأجندة الإيرانية".
ولفت فيصل إلى أن "العراق بالنسبة إلى إيران هو مفتاح للهيمنة على الشرق الأوسط، لا سيما وسط تصريحات إيرانية تعتبر أن أمن العراق مرتبط بأمن إيران، ما يشير إلى محاولة لبسط النفوذ الإيراني في العراق على الأصعدة كافة".
وحاول حلفاء إيران من الأحزاب والفصائل الشيعية المنضوية في "الإطار التنسقي" بين الحين والآخر، طرح مبادرات ومواقف سياسية هدفها الأساس إعادة زعيم "التيار الصدري" إلى البيت الشيعي، بعد تلقّي هذه الأطراف صدمة سياسية منذ إجراء الانتخابات في أكتوبر الماضي تمثّلت في رفضه التحالف مع جهات بارزة فيه، وتأكيده على تشكيل حكومة غالبية سياسية في العراق للمرة الأولى منذ عام 2005".
وينحصر الصراع بين "التيار الصدري" بزعامة مقتدى الصدر وكتل تحالف "الإطار التنسيقي" وغالبيتها حليفة وموالية لإيران، في ملفات عدة، منها قضية التعامل مع الوجود الأميركي وسحب أسلحة الميليشيات وإعادة الاعتبار للقوات المسلحة العراقية ومكافحة الفساد وشكل العلاقات الخارجية خصوصاً مع إيران.
لكن هذه الملفات تخفي في طيّاتها الصراع الحقيقي بين الجهتين، فهو صراع زعامات بين مقتدى الصدر ونوري المالكي، رئيس الوزراء السابق والزعيم الفعلي لتحالف "الإطار التنسقي"، وهو الأساس في عدم اتفاق الطرفين على المضي بتشكيل الحكومة وتوزيع المناصب، كما يحصل بعد كل انتخابات عراقية.