قبل أكثر من 20 سنة ترجم المحلل النفسي مصطفى صفوان مسرحية "عطيل" إلى العامية المصرية، ودار معه حوار مطول عن دوافع التجربة انتهى فيه إلى أن العربية "لغة السلطة" وستظل مقيدة بشروطها، بينما العامية لغة الناس واللغة الأم التي يرضعها الإنسان منذ الولادة. هكذا فرق بين لغة الناس التي يحكون بها في الحافلات وفي المقاهي وداخل البيوت، في مقابل لغة الدواوين والمكاتبات الرسمية، واستشهد صفوان بشدة تأثير شعراء مثل صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وبيرم التونسي لأنهم يكتبون بلغة يفهمها الناس. عندما قلت له إن نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين يكتبون أيضاً للناس وأثروا فيهم، كان رأيه أن معظم ما يكتب بالفصحى لا يصل إلى الشعب، بل هو موجه إلى السلطة لنيل رضاها وجوائزها، أو يكتبه الأدباء لدوائر أصدقائهم فقط.
اتخذ النقاش بعدًا آخر بأنه إذا صحت فرضية أن الكتابة بالعامية تسعى إلى الوصول للناس، فمعظم هؤلاء يعاني الأمية، ومن ثم لن يفرق معه أن يكون "الكتاب" بالفصحى أم بالعامية، وفي الحالتين سيظل عاجزاً عن قراءته، وهكذا ينتفي الهدف من الفكرة. هذا سجال ضمن سجالات ممتدة على مدى قرنين في الثقافة العربية والمصرية حول "ازدواجية" اللغة بين المحكي والمكتوب.
لا أحد ينكر قوة تأثير الشعر الشعبي والشفهي والأغاني في الوجدان العربي، وكذلك آلاف الأفلام والمسلسلات والمسرحيات والتطبيقات الإلكترونية تقدم بلهجات عربية محكية، في حين أن الفصحى يكاد ينحصر وجودها الآن في "الكتاب" المطبوع فقط. وخلال الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عرضت دار "هن" بعض الإصدارات "المترجمة" إلى العامية المصرية، واستأنفت محاولات كثيرة سابقة في هذا الاتجاه، فنشرت كتاب "الأمير الصغير" لأنطوان دو سانت أكزوبيري الموجه أساساً للصغار، ولم تحدث ضجة حول التجربة، ثم قبل أسابيع نشرت الدار نفسها رواية "الغريب" لألبير كامو الحائز "نوبل" في الآداب 1957، فأحدث صدورها جدلاً واسعاً بين مؤيد ومعارض.
حجج المعارضين كثيرة وأهمها أن العامية ستظل مقصورة على شريحة معينة داخل المجتمع المصري، بينما الفصحى توسع انتشار الكتاب في المجتمع العربي كله، أما المؤيدون فاعتبروا أن الأمر ليس جديداً ولن ينتقص من قدر الفصحى، إضافة إلى أن هذه الأعمال الكلاسيكية متاحة بالفصحى في عشرات الترجمات، فما المانع من توفرها في نسخة "عامية"؟
جانب من المشكلة يرتبط بالبرمجة العصبية اللغوية، فالمرء الذي تعود على قراءة كتاب بالفصحى لن يرتاح لترجمته إلى "لهجة محكية"، بينما هذا الشخص نفسه الذي اعتاد سماع اللهجة المحكية لن يعدم الاستمتاع بالكتاب "العامي" مسموعاً.
بالعودة لـ "الغريب" بترجمة الكاتب محمد غطاس (الدار المصرية - اللبنانية) ومقارنتها بالنسخة العامية بترجمة هكتور فهمي (دار هن)، نجد أن النسختين متقاربتان من ناحية الحجم، وأيضاً هناك حرص على تضمينهما مجموعة رسوم للفنان محمد حجي (النسخة الفصيحة) والفنان مخلوف (النسخة العامية). على مستوى التبويب هناك فروق واضحة، فالنسخة الفصيحة التي صدرت قبل ربع قرن وزعت الرواية على الرغم من قصرها النسبي في أربعة أجزاء، بينما نسخة العامية وزعتها على جزأين، اشتمل الأول على ستة فصول والآخر على خمسة، وكان ثمة اختلاف بينهما في اسم الكاتب "كامى"/ "كامو". فضل غطاس أيضاً أن يكون تعريفه بالكاتب والرواية في نهاية الكتاب وليس في المقدمة كما جرت العادة، أما هكتور فهمي فاكتفى بإشارة مقتضبة إلى مشروعه للترجمة بـ "المصري" وتعريف سريع بالرواية وكاتبها في صفحتين.
ثمة سؤال يفرض نفسه، هل ترجم هكتور "الغريب" عن الفرنسية مباشرة إلى "العامية"؟ أم أنه ترجم نسخة "الفصحى" إلى العامية المصرية؟ لا يوضح في مقدمته إذا كان اطلع على أي ترجمات عربية (وهي كثيرة) ولا حتى طبيعة النسخة الفرنسية التي اعتمد عليها، واكتفى بالقول إنها ثالث أكثر رواية فرنسية ترجمت إلى عشرات اللغات، بما في ذلك ترجمة صدرت بـ "العامية التونسية" سنة 2018. وبمقارنة الفقرات الأولى في النسختين نجد تطابقاً شبه تام، "أمي ماتت اليوم. وربما كان ذلك بالأمس، لست أدري، فقد تلقيت برقية من دار المسنين تقول ماتت الأم. الدفن غداً. تحيات طيبة. وهذا لا يعني شيئاً، فربما كان ذلك بالأمس".
في الترجمة العامية، "النهاردة ماما ماتت. أو يمكن إمبارح. مش عارف. وصلني تلغراف من الدار بيقول: "الوالدة اتوفت. بكرة الدفن. البقية في حياتك". ده كلام مالوش معنى. ويمكن اللي حصل ده يكون حصل امبارح". كل التغيرات هنا في تحويل الفصحى إلى مرادفها العامي: "أمي/ ماما، أمس/ إمبارح، ماتت/ اتوفت، غداً/ بكرة". ويلاحظ في نسخة الفصحى الإشارة بوضوح إلى "دار المسنين"، بينما في نسخة العامية قيل "الدار" وهي إشارة ملتبسة وغير دقيقة. أيضاً كلمة "الأم" محددة في دلالتها، وتستعمل بين شرائح مصرية كثيرة تقول "أمي"، أما كلمة "ماما" فهي لا تستغرق جميع الشرائح وتكاد تقتصر على الطبقة المتعلمة فقط.
هذا ينقلنا إلى كلمات كثيرة متطابقة بين العامية والفصحى مثل "الدار"، حتى كلمة "بكرة" التي تعني "غداً" هي مشتقة من فعل "أبكر" في الفصحى. ولعل الإشارة الموجودة على الغلاف "رواية باللغة المصرية" تثير الشكوك، لأن اللغة المصرية المعروفة هي الهيروغليفية، أما ما قام به المترجم فهو ترجمة بلغة عربية "محكية" خاصة بالمجتمع المصري.
ألزم هيكتور نفسه بـ "ترجمة مصرية" أو "عامية عربية محكية" إذا شئنا الدقة، مع ذلك خالف في مواضع عدة ما ألزم به نفسه، فمثلاً في المقدمة استعمل مفردات مثل "قصص قصيرة، قصايد، صديقي" وغالباً ينطق المصريون القاف كأنها همزة وليس كما كتبها، ولا يستعملون "صديقي" وإنما "صاحبي" على الرغم من أن كلتيهما فصيحة. واستعمل كذلك كلمات فصيحة لا تمت إلى العامية بصلة، لأن العامية تفضل "وجع"، و"القضاء" في العامية يقال له "القضا" وغالباً "المحكمة"، كما أورد "قاضي التحقيق" علماً أنها ليست عامية، مما يعني أنه لجأ إلى تعويض نقص ما في "العامية" أو هو نفسه تبرمج كتابة على الفصحى.
من الواضح أن بدائل العامية مثل ماما، وأمي، والوالدة، وست الحبايب، والحاجة، ويمه، لا ترتبط فقط بدلالة كل مفردة في المعجم كما هو شأن الفصحى، وإنما بسياق ثقافي وبيئة لغوية معينة، وبمعنى آخر داخل كل مجتمع "عاميات" وليس عامية واحدة، فأي مفردة نستعملها؟ هل ينادي الصعيدي البسيط "يا ماما"؟
في مقدمته المختزلة أكثر مما يجب يؤكد هكتور أن "لغتنا المصرية هي لغة كاملة، لديها جمالها وقواعدها ومستوياتها المختلفة"، لكنه لم يوضح لنا طبيعة تلك القواعد ومدى اتساقها واتفاق المتحدثين عليها، وما طبيعة النفي أو النهي في العامية؟ وما قاعدة الجمع؟ وعلى أي أساس تتغير معاني المفردات ذات الجذر اللغوي الواحد؟ وكيف يتم الاشتقاق وتوليد مفردات جديدة؟ بطبيعة الحال هو ليس كتاباً في تحليل بنية العامية المصرية، لكن على الأقل كان بإمكانه أن يعطي إشارة عن القواعد التي تحدث عنها وكيف طبقها. في العبارة الختامية، "أتمنى أن ينتهي كل شيء، وأتمنى أن أكون هناك أقل وحدة من هنا، ولم يبق سوى أن أتمنى أن يكون هناك كثير من المتفرجين يوم الإعدام، وأن يستقبلوني بصرخات الحقد والغضب". في الترجمة العامية "وعشان كل حاجة تكمل وعشان ما حسش بالوحدة، ما كانش فاضل غير إن أنا أتمنى إن يوم تنفيذ الإعدام بتاعي يبقى فيه جماهير كتير بتتفرج وإنهم يستقبلوني بصرخات الكره".
لا يوجد فرق كبير بين المقطعين، لكن ما القواعد والجماليات التي توفرت للنص العامي ولم يستطع النص الفصيح تلبيتها؟
إن نجاح الكلام والكتابة والترجمة باللهجة المحكية مرتبط بقبول الجمهور للتجربة، ولا شك في أن هناك تراجعاً حاداً في تعليم اللغة العربية في المدارس، وتراجع نسب القراءة تحت سطوة التطبيقات البصرية، ثم هناك شريحة لا يستهان بها انفصلت عن إرث الفصحى، فهي تفكر وتتكلم بالعامية وتكتب في "السوشيال ميديا" بالعامية، ولن تجد غضاضة في قراءة روايات مكتوبة بها، بل ثمة كتب أخرى صدرت حديثاً بهذه الطريقة منها كتاب "الدحيح" الذي يروي ظاهرة "اليوتيوبر" المصري الشهير، لأن مؤلف الكتاب أراد أن يخرج على نسق البرنامج نفسه وباللغة والمنطق والصور التعبيرية ذاتها.
كلها محاولات للوصول إلى جمهور خارج صندوق القراء التقليديين، وعندما تتوسع الظاهرة ويزداد جمهورها الذي تتوجه إليه، ساعتها يمكن القول إنها نجحت وباتت مهددة لعرش الفصحى، وهو ما لم يتحقق إلى الآن.