رستم محمود
مع مرور الذكرى السابعة عشرة لانتفاضة كورد سوريا ضد النظام الحاكم عام 2004، وحينما كان يتم استحضار وتذكر تلك الأحداث "المريعة" عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن أغلبية واضحة من المُعلقين السوريين على ذلك الحدث، من غير الكورد، كانوا يُعبرون عن اندهاشهم لما يتم عرضه من مقاطع وروايات عن تلك الأحداث.
فالمتابعون السورين هؤلاء، كانوا يعبرون عن عدم عِلمهم سابقاً بتلك الأحداث، وتالياً سوء إدراكهم للتناقضات والصراع السياسي الذي كان بين كورد سوريا ومطالبهم وبين النظام السوري.
يحدث ذلك بشكل دوري كل عام تقريباً. فحتى بعد مرور سبعة عشر عاماً على تلك الأحداث الاستثنائية في دولة صغيرة نسبياً مثل سوريا، وبالرغم من ضخامة ما جرى وقتئذ، حيث راح ضحيتها عشرات الشُبان الكورد وحُصرت بعض المُدن ذات الغالبية الكوردية وتم التنكيل بسكانها المدنيين، بعدما حُطمت تماثيل حافظ الأسد فيها وطُردت الأجهزة الأمنية من داخل المُدن والبلدات، إلا أن قاعدة واسعة من السورية تُعبر كل مرة عن عدم علمها بما جرى، بالضبط كما كانت وما تزال تُعبر دوماً عن "جهلها" بكل تفاصيل المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكوردية، وطبعاً تكاد أن لا تعرف شيئاً حوال الثقافة والمُجتمع وأشكال الحياة الخاصة التي كانت وما تزال لكورد سوريا.
التفسير الأكثر رواجاً لأسباب ذلك، والذي تُقدمه نُخبة المُعارضة السورية عادة، ومنذ أن وقعت تلك الأحداث، يُعلل ذلك بطبيعة النظام الحاكم، حيث كانت شموليته مانعاً أساسياً ودائماً لسوء فهمٍ وتواصل وتعاضد داخلي بين المُجتمعات السورية. ولأجل ذلك، ودائماً حسب ذلك التفسير التقليدي، فإن عموم السوريين من غير الكورد لم يعرفوا ويتفاعلوا مع ذلك الحدث الاستثنائي في التاريخ السياسي السوري.
ذلك التفسير، على صحته النسبية، لا يُقدم إجابة شافية على تفصيلين داخليين ضمن هذه المُعضلة: لماذا يطال ذلك النوع من عدم المعرفة والإدراك حتى "النُخب السياسية والمعرفية والاجتماعية" السورية، التي من المُفترض أن تكون حصينة وأعلى مكانة من أدوات النظام السوري التي تحاول تجهيل السوريين ببعضهم!.
كذلك لا يُقدم ذلك التفسير دلالة واضحة على أسباب استمرار ذلك النوع من سوء الفهم، رغم مرور كل هذه السنوات، وخروج السوريين بأغلبيتهم المُطلقة من عباءة أدوات ودعاية النظام السوري، ومعها التطور الهائل لأدوات التواصل الإعلامي!.
ذلكم التفصيلين يثبتان بأن المسألة تتجاوز بتفسيرها ديناميكيات النظام السوري التفريقية، لتكون تعبيراً عن أشكال من علاقات القوة والسُلطة والتفوق التي كانت تربط الجماعات والمُجتمعات السورية الداخلية فيما بينها.
إذ كان ثمة ترتيب هرمي بين هذه الجماعات السورية، من أكثرها ضعفاً وهشاشة وهامشية، إلى أقواها وأكثرها حضوراً ومركزياً وسطوة على المتن العام للحياة في ذلك البلد. حيث أن المركزيين هؤلاء لم يكونوا يشعرون وينتبهون ويبالون بمن هُم دونهم في سلم القوة ذاك، حتى أنهم لم يكونوا يرونهم ويمنحونهم أي اعتبار.
الكورد السوريون كان في أسفل ذلك السلم، لأنهم كانوا يشكلون ذروة الهامشية في كل تفصيل. فقد كانوا أبناء القومية الأخرى، في بلد كان أسير طوفان العروبة السياسية، كذلك كانوا الأبعد جغرافياً عن مراكز المُدن الرئيسية، وفوق ذلك كانت مناطقهم هي الأفقر والأقل تنمية، بالرغم من ثرواتها الهائلة.
مع هذا كله، كانوا الأقل حضوراً في التاريخ السياسي والثقافي والاقتصادي للبلاد، وأكثر المُشككين بولائهم وعلاقتهم الوجدانية مع البلاد، حيث تذخر وثائق الدولة السورية بآلاف التقارير الحكومية التحذيرية من الكورد، منذ أربعينيات القرن المنصرم.
ومع هذه الأمور كلها، كانوا الأقل تعليماً والأكثر ريفية والأقل حضوراً في الجيش والوظائف الحكومية العليا والكلام العام، وحتى في الدراما والسينما والأغاني السورية، وطبعاً منذ اللحظات التأسيسية الأولى للدولة السورية.
بدرجات متفاوتة مماثلة لحالة الكورد، كان ثمة جماعات سورية أخرى تتفاوت هامشيتها وحضورها، تلك التي لا وزن وحضور لها، وإن بدرجات أقل من الكورد. لكن الجامع الجوهري بالنسبة لهذه الجماعات السورية كان في كونها غير ذات اعتبار بالنسبة للوجدان والعقل العام لنظيرتها من الجماعات والنُخب المركزية.
هذه الجماعات تمثلت، خلال نصف قرن كامل أخير مضى، في تشكيلتين رئيسيتين: العرب السُنة من أبناء المُدن الرئيسية التاريخية الأربعة في البلاد، كممثلين لجماعة الأكثرية العددية والمهيمنين على هوية الدولة السورية بوثائقها ومؤسساتها ورمزيتها. وأبناء الطائفة العلوية من الذين هيمنوا على السُلطة والمؤسسات الحاكمة في البلاد، وتالياً أنشأوا استطالات في كافة مؤسسات ومناح الحياة.
مرت عشرة سنوات على اندلاع الثورة السورية، وبالرغم من جذرية مطالبها وفظاعة الأثمان التي دفعها السوريون جرّاءها، إلا أنه ثمة جماعات وتشكيلات سورية هامشية غير مرئيين تماماً، بهوياتها ومطالبها وأفعالها وتطلعاتها، ثمة إصرار مريع من قِبل التشكيلات المركزية في البلاد على احتكار البلاد لنفسها، وعدم الالتفات إلى عالم هؤلاء الهامشيين، ومنحهم شيئاً من ثروات البلاد الرمزية والسياسية عبر هبة الاعتراف بوجودهم وحقهم النسبي في الشراكة في الحياة العامة للبلاد.
ثمة إصرار مريع للجماعات المركزية للحفاظ على امتيازاتهم واستثنائيتهم في الكيان السوري، وتالياً خلق تبعية ميكانيكية للآخرين وتطلعاتهم وأفعالهم العامة.
بالضبط كما يصر النظام السوري للحفاظ على سلطويته المُطلقة على البلاد، ثمة إصرار نظير من قِبل المركزيين للاحتفاظ بمكانتهم ومُلكيتهم للبلاد وعماهم عن غير من السوريين. ثمة أمثلة لا تُعد حول ذلك، يُجمع عليها المركزيون بالرُغم من صراعهم السياسي البيني، الإصرار على إبقاء اسم البلاد "الجمهورية العربية السورية" مثلاً، التأكيد على مركزية الحُكم مثال آخر، ومثلها ما لا حد له من النماذج، التي تقول في كل تفصيل منها: هذه البلاد لنا، وفقط كذلك.
هذه المقولة التي تفعل الكثير من الأشياء في حاضر البلاد، من حروب أهلية وأشكال من الاستعصاء التي لا تنتهي، وغالباً ستبقى تفعل أشياء من مثلها في مستقبل سوريا، هذا إن كان يجوز جمع كلمتي سوريا ومستقبل في جُملة واحدة.