يشكل حضور الأحزاب السياسية الكوردية وفي مقدمتها حزب الشعوب الديمقراطي ذو التوجّهات اليسارية في الانتخابات البرلمانية والبلدية في تركيا دافعا مفهوما للقلق الذي ينتاب الرئيس رجب طيب أردوغان، والذي اختار سياسة تكميم أفواه السياسيين في هذا التيار المعارض.
ويرى بوراك بكديل المحلل التركي والزميل في منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة في تقرير نشره معهد جيتستون الأميركي أن المشكلة الكوردية التي يواجهها أردوغان في الاستحقاقات القادمة تنطوي على احتمال أن تكلفه أكثر من مجرد مدينة إسطنبول التي خسرها قبل أقل من عامين.
باتت الأحزاب الكوردية صداعا مزعجا لأردوغان، ففي مارس 2019 انطلق السباق لانتخابات إسطنبول بأقصى قوته بعد أن سيطرت الأحزاب الإسلامية على أكبر مدينة في تركيا منذ عام 1994، فارضة هيمنتها عليها على مدار 25 عاما كاملة.
ولم تكن إسطنبول مجرد مدينة أخرى يفوز بها أي حزب. وأوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذلك بقوله “من يفوز بإسطنبول فإنه يفوز بتركيا”.
وفي غمرة الاستعدادات لخوض تلك الانتخابات أدرك أردوغان أن حزب العدالة والتنمية ربما يخسر إذا أعطى مليونا كوردي في إسطنبول أو قرابة ذلك أصواتهم لمرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو.
والسؤال كان حينها ما الذي يجب القيام به في هذه الحالة؟ لتأتي الإجابة سريعا، ففي ذلك الوقت بثت محطة “تي.آر.تي” الإذاعية الحكومية رسالة من عبدالله أوجلان السجين وزعيم حزب العمال الكوردستاني المصنف منظمة إرهابية.
ودعت رسالة أوجلان الكورد إلى التزام الحياد بين الحكومة ومرشحي المعارضة. وكان من شأن تلك الرسالة أن تسفر عن دعم فعلي لمرشح حزب العدالة والتنمية رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم.
غير أن فرز الأصوات حينها أثبت فشلا سياسيا ذريعا. وفاز إمام أوغلو بهامش ضئيل بلغ 13 ألف صوت في مدينة يبلغ تعداد سكانها 18 مليونًا، لكن المجلس الأعلى للانتخابات الذي يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية قرر إعادة الانتخابات في الـ23 من يونيو من نفس العام، وفي هذه المرة فاز إمام أوغلو بهامش 800 ألف صوت، مما كان له وقع الصدمة على أردوغان ومؤسسة حزبه.
وبحسب بكديل كانت تلك الليلة بمثابة هزيمة لا يمكن نسيانها بالنسبة إلى أردوغان. كما كانت إيذانا بمرحلة جديدة ومتقدمة في حرب تيار الإسلام السياسي على الكورد. وقد صوت الكورد في ما يبدو لصالح أمام أوغلو ضاربين برسالة أوجلان عرض الحائط.
ودعا دولت بهجلي الحليف القومي المتطرف القوي لأردوغان بإصرار المحكمة الدستورية إلى فرض حظر على حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للكورد، وهو ثالث أكبر حزب في البرلمان التركي.
يؤكد بكديل أن أردوغان يتبنى اتباع طرق أكثر دهاء لترهيب المعارضة تتمثل في سجن زعماء حزب الشعوب الديمقراطي وأعضاء البرلمان ورؤساء البلديات التابعين له والمنتخبين ديمقراطيا، وتعيين أشخاص موثوق بهم بدلاً منهم.
وأشار إلى أن الرئيس التركي لم يكن في حاجة إلى إغلاق حزب الشعوب الديمقراطي لأنه شل حركته في الواقع، فالرئيسان المشاركان للحزب وهما صلاح الدين دميرتاش وفيغن يوكسكداغ يقبعان في السجن منذ عام 2016.
وقد تم القبض على دميرتاش ويوكسكداغ على خلفية اتهامات بالإرهاب، لكن هذه الاتهامات تظل قصة قانونية غريبة ومريرة، ففي عام 2014 دعا حزب الشعوب الديمقراطي مؤيديه إلى الاحتجاج بشكل سلمي على سيطرة تنظيم داعش على بلدة كوباني (عين العرب) الكوردية في شمال سوريا.
وتحولت ما بدأت في بادئ الأمر كاحتجاجات سلمية إلى أعمال عنف بين المتظاهرين وقوات الأمن، وكذلك بين متظاهرين يعتنقون أيديولوجيات متنافسة، وأسفر أسبوع من العنف الذي اجتاح المدن ذات الأغلبية الكوردية في جنوب شرق تركيا عن مقتل 46 شخصا وإصابة 682 آخرين إضافة إلى اعتقال أكثر من 300 شخص.
وأعد المدّعون الأتراك لوائح اتهام ضد دميرتاش ويوكسكداغ إضافة إلى 9 نواب آخرين من حزب الشعوب الديمقراطي بالتحريض على إثارة العنف. وجاءت تلك الخطوة من جانب المدعين بعد مرور ست سنوات ونصف على الأحداث.
وقال كاتب العمود التركي محمد يلماز إن “هذه محاولة لحظر ممارسة السياسة”. ومن أجل تجنب الخيار الأكثر تطرفا والمتمثل في إغلاق حزب سياسي، ربما يدرس أردوغان أيضا اتخاذ تدابير إضافية ليوجه ضربة أخرى لحزب الشعوب الديمقراطي.
وتشمل هذه الإجراءات حرمان الحزب من التمويل الحكومي نظرا لأن إغلاق الحزب لن يكون رادعا على الأرجح. وحزب الشعوب الديمقراطي هو الحزب الثامن المؤيد للكورد في تركيا، وقد تم حظر سبعة أحزاب أخرى.
وأسس الكورد أول حزب لهم سنة 1990 غير أنه بين عامي 1994 و2015 ارتفعت نسبة أصوات الكورد في تركيا من 4.1 في المئة إلى 13.1 في المئة من إجمالي الأصوات، أي من 1.1 مليون صوت إلى أكثر من ستة ملايين.
ويزعم حزب الشعوب الديمقراطي أنه يواجه حملة قمع قانونية غير مسبوقة. وتم اعتقال 16 ألفًا من أعضائه كما تم طرد العشرات من نوابه من البرلمان وسجنهم بموجب قانون مكافحة الإرهاب التركي.
وتعمل الحكومة حاليا على رفع الحصانة البرلمانية عن جميع نواب حزب الشعوب الديمقراطي الذين يخضعون لإجراءات قضائية مستعجلة تتعلق باتهامات بالإرهاب. وحتى الآن واجه 56 نائبا من حزب الشعوب الديمقراطي إجراءات قضائية مستعجلة بلغ عددها 914.
وتساءل كاتب العمود عاكف بيكي قائلا “جدّيا، هل كان سيتم القيام بحملة القمع ضد السياسيين الكورد لو كان الناخبون الكورد في إسطنبول قد التزموا الحياد وفاز حزب العدالة والتنمية بإسطنبول؟”.
مع إصدار حكم جديد بحق سياسي كوردي بارز آخر في فبراير الماضي اتخذت الحملة منحى قبيحا جديدا. وفي تغريدة جديدة أعاد عمر فاروق غيرغيرلي أوغلو، وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان ونائب عن حزب الشعوب الديمقراطي، منشورا كان قد نشر في 2016 يؤيد السلام في النزاع الكوردي.
وقضت محكمة تركية بسجنه سنتين ونصف السنة بسبب إعادة نشر التغريدة، رغم أنه لم يتم توجيه الاتهام إلى مصدر التغريدة الأصلي وهو الأمر الذي يدعو للسخرية. وفي فبراير أيدت محكمة الاستئناف العليا الحكم الصادر ضد غيرغيرلي أوغلو لقيامه “بنشر دعاية إرهابية” وذلك بعد خمس سنوات من إعادة نشر التغريدة.
وأظهر البحث أن معدل الخصوبة في الجزء الشرقي من تركيا الذي يتحدث سكانه اللغة الكوردية كان 3.41 في المئة مقارنة بنحو 2.09 في المئة في المتوسط في المناطق الأخرى التي يتحدث سكانها اللغة التركية.
وربما يصل عدد الأصوات الكوردية في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في 2023 إلى سبعة ملايين مما قد يجعل الكورد صانعي الملوك.
وهناك مؤشرات على أن المزيد من الكورد يشعرون بالامتعاض جراء سياسة أردوغان المتشددة. وأظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة رافيست اراشتيرما البحثية في فبراير الماضي أن ربع الكورد الذين أعطوا أصواتهم لأردوغان في السابق قالوا إنهم لن يصوتوا لصالحه مرة أخرى. وقال بكديل في ختام تقريره إنه ربما تثبت حرب أردوغان على السلام أنها سوف تحقق نتائج عكسية.