طوني فرنسيس
تشبه مبادرة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه اليمن مبادرة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه لبنان، والمبادرتان اللتان اعتقدتا القدرة على إحداث خرق في جدار استعصاء أزمة البلدين، اصطدمتا بالعوائق نفسها، فالمشكلة في اليمن كما في لبنان، لم تعد مجرد خلاف داخلي حول السلطة، بل هي جزء من قضية أكبر، جوهرها الدور الإيراني في المنطقة. وإيران التي عملت طوال عقود على بناء مواقع لها في هذين البلدين، إضافة إلى بلدان أُخر، ليست في وارد تسهيل حل مشكلات أي منها خارج المصلحة الإيرانية المباشرة، ومن دون ضمان هذه المصلحة لا يبدو أن طهران مستعدة لتسهيل ما يعتقده بايدن وماكرون ضرورياً لإخراج اليمن ولبنان من أزمتيهما .
كان الرئيس الفرنسي سبّاقاً في تقديم الإغراءات قبل مبادرته اللبنانية وخلالها وبعدها. طرح نفسه في موضوع الاتفاق النووي وسيطاً إلى جانب الثلاثي الأوروبي (مع ألمانيا وبريطانيا) لتسهيل العودة إلى الاتفاق الذي خرجت منه أميركا، وفي لبنان كان حريصاً على عدم إزعاج "حزب الله" الركن الأبرز في سياسة إيران العربية، فلم يتبنّ مطالب أكثرية لبنانية بوضع سلاحه في تصرف الشرعية، وتلبية لشروطه لم يطرح إجراء انتخابات مبكرة، ولم يقترح حكومة خارج إرادته.
ومع ذلك أحبطت إيران مبكراً مساعيه، واعتبرتها محاولة غربية جديدة لضرب "محور المقاومة" الذي تتربع على رأسه، وعندما طوّر ماكرون فكرته لإنقاذ الاتفاق النووي بإشراك القوى الإقليمية، خصوصاً السعودية ودولة الإمارات في إعداد نسخته الجديدة، جاء الرفض الإيراني قاطعاً، "الاتفاق النووي اتفاق دولي متعدد الأطراف صدق عليه قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2231)، وهو غير قابل للتفاوض، كما أن الأطراف فيه واضحة وغير قابلة للتغيير".
لم ترفض إيران مقترحات ماكرون فقط، بل ذهبت إلى وضع الشروط على الجانب الأميركي، فدعته إلى الرفع الكامل للعقوبات المفروضة عليها، بل والتعويض عن تلك العقوبات ضمن مرحلة امتحان للنيّات قبل العودة عن تدابير رفع تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة، بدلاً من نسبة الـ 3.76 المنصوص عليها في الاتفاق، وأضافت إلى كل تلك الاشتراطات رفضها القاطع إدخال موضوع الصواريخ الباليستية والتدخلات في شؤون الجوار ضمن أي بحث في تجديد العمل بالاتفاق .
ومثلما دخل ماكرون إلى الملف الإيراني عبر بوابة لبنان، اختار بايدن بوابة اليمن بعد إعلانه تغييراً شاملاً للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، يتضمن "مراجعة" الدعم العسكري لدول الخليج واستئناف الحوار مع إيران .
في الأسبوع الأول من فبراير (شباط) الحالي، قال بايدن إنه "يجب أن تنتهي هذه الحرب". وترجمة لقراره، أنهى كل الدعم للعمليات الهجومية بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة، ثم ألغى تصنيف الحوثيين كتنظيم إرهابي، وأوفد مبعوثه الخاص تيموثي ليندركينغ إلى الرياض بعد أسبوع واحد من تعيينه، إلا أنه لحظة هبوط ذلك المبعوث من الطائرة، شنّ الحوثيون هجمات على مطار أبها ضمن سلسلة اعتداءات متصاعدة على أراضي البلاد، مما يعني أن رهان الإدارة الأميركية على تقريب الجماعة اليمنية إلى منطق الحل تكتنفه الشكوك، وأن قرار هذه الجماعة في طهران التي مثلما رفضت تسهيل مهمة ماكرون في لبنان تمنع تحقيق طموح بايدن إلى إحداث اختراق وتسوية في اليمن، تحت شعار وحيد، تعالوا للتفاوض معنا أولاً... وبشروطنا.
والواقع أن القيادة الإيرانية قررت سلوك منحى آخر استناداً إلى الإشارات التي أوحت بها لإدارة بايدن، بما فيها ضبابية العلاقة مع الحلفاء التقليديين في المنطقة، ورغبة من النظام الإيراني في تثبيت سيطرته لدى حلول موعد الانتخابات الرئاسية، واستبدال حسن روحاني بشخص أكثر ارتباطاً وولاء للمرشد خامنئي، والمنحنى الآخر رسم خامنئي معالمه في خطابه يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وفحواه أن إيران ليست "على عجلة من أمرها"، وأنه إذا لم يتم رفع العقوبات مسبقاً فإن عودة الولايات المتحدة إلى "خطة العمل المشتركة" ربما تكون ضارّة لطهران، وكرّر خامنئي موقفه في خطاب لاحق بعد شهر، مضيفاً أنه بعد رفع واشنطن العقوبات "ستتحقق إيران مما إذا كان تم رفعها بالفعل"، مع ما يعنيه ذلك من قدرة إيران على بيع نفطها، واستعادة علاقاتها المالية مع الأسواق العالمية، ومن دون أي بحث في السياسات الإقليمية أو برنامج الصواريخ .
جاء خطاب خامنئي بعد ثلاثة أيام من خطاب بايدن اليمنيّ، ولم يكن للشأن اليمنيّ أو الإقليمي الآخر ذكر في الرواية الإيرانية، وغاب الموضوع اللبناني تماماً عن لسان المسؤولين الإيرانيين، عدا المتابعات الإعلامية النشطة لاعتداءات الحوثيين، واستعادة "إنجازات" قاسم سليماني و"الحشد" العراقي، والاحتفال بالمؤيدين في البحرين .
تراهن إيران على تفكك التحالف الدولي العربي، وعلى الانشغال الداخلي لإدارة بايدن، خصوصاً بعد فشل محاولة إدانة الرئيس السابق دونالد ترمب في مجلس الشيوخ، كما تسعى إلى بناء شبكة حماية دولية مضادة، أبرز الخطوات في سبيلها رسالة خامنئي إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، غير أن بوتين لم يستقبل حامل الرسالة رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف شخصياً، وفي ذلك إشارة إلى أن الرهانات الإيرانية ليست كلياً على موجة رهانات الأصدقاء المفترضين لها، مثلما لن تكون على الأرجح موضع قبول لدى الخصوم التقليديين لنظام يُمضي أيامه في المناورات العسكرية وخطابات "الاقتدار".