د. عماد بوظو
في شهر أكتوبر الحالي قال مجيد رضا حريري رئيس غرفة التجارة الإيرانية ـ الصينية إن عائدات النفط الإيراني لن تتجاوز هذا العام خمسة مليارات دولار في أحسن الأحوال، بينما كانت تلك العائدات 110 مليار عام 2011. كذلك تراجعت صادرات إيران غير النفطية خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي إلى 10.9 مليار دولار بانخفاض 40 في المئة عن نفس الفترة من العام الماضي، ونتيجة هذا الانخفاض القياسي في قيمة الصادرات أصبح أكثر من خمسين في المئة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر المدقع حسب ما أشارت تقارير صادرة عن مركز الإحصاء الإيراني، ويقفز هذا الرقم إلى 72 في المئة في بعض الدراسات المستقلة.
وأدّى ذلك إلى انخفاض شديد في استهلاك معظم المواد الغذائية، ففي شهر أغسطس الماضي أظهر استطلاع لمؤسسة الجهاد الجامعي الإيرانية أن أكثر من مليوني شخص لم يأكلوا اللحوم الحمراء أبدا خلال العام الماضي، وانعكس ذلك بشكل خاص على أوضاع العمال البالغ عددهم 15 مليونا، ولذلك تشهد إيران احتجاجات شبه أسبوعية لعمال ومتقاعدين في قطاعات مختلفة اعتراضا على أوضاعهم المعيشية.
قد يكون من المؤكد أن العقوبات الأميركية لعبت دورا في وصول الاقتصاد الإيراني إلى هذه الحالة المأساويّة، ولكن انخفاض أسعار النفط وجائحة كورونا والمغامرات الإقليمية للنظام الإيراني وفساد الطبقة السياسية الحاكمة كان لها الدور الرئيسي في ذلك.
كما كشف وباء كورونا عن ضعف منظومة إيران الصحية عندما أصبحت منذ بدايات فبراير الماضي بؤرة الوباء في الشرق الأوسط والمدخل الذي انتقل منه إلى العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان ودول الخليج، خاصة من مدينة قم المقدسة التي تنشط فيها الشركات الصينية من ناحية وتستقبل مئات آلاف الزوار الشيعة من داخل إيران وخارجها من ناحية أخرى.
وقالت مجلة فورين بوليسي الأميركية إن التفشي المدمّر للفيروس في إيران ناجم عن الإدارة الحكومية السيئة التي تجلّت في بطء استجابتها للجائحة والتعامل معها بشكل سياسي، مثل تقليلها من خطر الفيروس من أجل إجراء الانتخابات البرلمانية في 21 فبراير، وانعدام الشفافية وإخفاء الحقائق عن الشعب الذي أدّى إلى مزيد من تفشي الوباء، وإعطاء الحكومة الأولوية للاقتصاد على حساب الصحة مثل إبقاء رحلات الطيران مع الصين، ولذلك فإن أرقام الإصابات في إيران ما تزال في تصاعد متواصل حتى تجاوزت نصف مليون إصابة و29 ألف وفاة، مع أن المرجّح أن الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير، وتدل المؤشرات الحالية على أن الحكومة الإيرانية لا تجد أمامها من خيار في التعامل مع كورونا سوى انتظار الوصول إلى مناعة القطيع رغم الثمن البشري الباهظ لذلك.
ففي أذربيجان يقوم الشيعة العلمانيون بمحاربة وملاحقة الدعاة المرتبطين بالجمهورية الإسلامية وسط تأييد شعبي للحسم في التعامل مع هؤلاء
في هذه الأوضاع الخانقة اقتصاديا وصحيّا أتى التصعيد العسكري بين أذربيجان وأرمينيا، وهذه القضية ذات أهمية بالغة لإيران لأسباب عديدة، فبالإضافة إلى مئات الكيلومترات من الحدود المشتركة مع هذين البلدين، فإن الأذر المنتمين إلى العرق التركي يشكّلون بين 25 و30 في المئة من سكان إيران، وهناك دراسات تقدرهم 40 في المئة أي بين 20 و30 مليون نسمة، رغم أن الإحصائيات الرسمية تحاول تقليل عددهم.
والأذر في إيران محرومون من استخدام لغتهم في المدارس والمؤسسات الرسمية والجيش، كما يحظر عليهم الترويج لثقافتهم القومية رغم ثقلهم الاقتصادي الكبير وهيمنتهم على البازار حتى في العاصمة طهران. ويدرك الأذريون حجم قوتهم لذلك لا يطيعون الكثير من تعليمات السلطة المركزية ويقيمون فعاليات ويفتتحون مؤسسات في مناطقهم بدون تراخيص ولا تتجرّأ طهران على منعها أو إغلاقها، بعكس أسلوب القمع المباشر والعنيف الذي تعتمده السلطات الإيرانية في مناطق الأكراد والعرب والبلوش.
الأذربيجانيون كشعب واحد يعتبرون الوحدة بين شمال أذربيجان وجنوبها مطلب شعبي عاطفي يحظى بتأييد واسع، ولذلك عقدت الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية اجتماعا في باكو عام 2013 لوضع خطة لتحرير واستقلال أذربيجان من الاحتلال الإيراني، فاحتجّت الحكومة الإيرانية واعتبرته يهدف إلى تفكيك إيران، وردّ على ذلك حسين شريعتمداري مستشار خامنئي بالمطالبة بإلحاق جمهورية أذربيجان بإيران باعتبارها ولاية انسلخت عن الإمبراطورية الفارسية في أوائل القرن التاسع عشر.
ولكن لشعب أذربيجان رأي آخر، ففي حين نجحت إيران في توظيف جزء كبير من شيعة الشرق الأوسط في خدمة مشروعها الإقليمي من العراق إلى لبنان حتى الخليج، فإنها فشلت في تحقيق ذلك في أذربيجان، بل بالعكس ففي أذربيجان يقوم الشيعة العلمانيون بمحاربة وملاحقة الدعاة المرتبطين بالجمهورية الإسلامية وسط تأييد شعبي للحسم في التعامل مع هؤلاء، إذ أن حكومة أذربيجان تعتبر نشر ثقافة ولاية الفقيه داخل حدودها عملا عدوانيا موجّها ضدها.
وحسب استطلاعات غالوب تعتبر أذربيجان واحدة من أقل البلدان تديّنا في العالم، حيث قال 50 في المئة من العيّنة التي شملها الاستطلاع أن لا أهمية للدين في حياتهم، ولذلك لا ترتدي أغلبية النساء الحجاب ولدى أذربيجان نبيذها الشهير وبيرتها المحلية المميزة ونمط حياتها العصري، وإذا أضيف إلى ذلك مستوى معيشتها المرتفع مقارنة مع إيران يصبح من السهل تفسير سبب انجذاب الأذر في إيران إليها، بل إنها تقدم للشيعة في كل دول الشرق الأوسط مثالا عن ما الذي ينتظرهم إذا تحرروا من التبعية للنظام الإسلامي في إيران.
ومما يزيد من قلق النظام الإيراني أن المواجهة الحالية تدور مع أفضلية عسكرية وسياسية لمصلحة أذربيجان نتيجة عدم حماس روسيا لمساعدة أرمينيا بشكل مباشر، ومن الممكن تصوّر شعور الأذر في إيران وهم يشاهدون رئيس أذربيجان "الشمالية" وهو يخطب مهدّدا وواثقا من قدرته وخلفه علم أذربيجان مما ينمّي عندهم الشعور بأن هذا هو وطنهم الحقيقي، وهذا يمثّل أحد أخطر التهديدات التي قد تواجه النظام الإسلامي والدولة الإيرانية، وتأكيدا على ولائهم هذا تظاهر الأذريون في طهران وتبريز وأردبيل وأرومية تضامنا مع أذربيجان، وتصدّت لهم الشرطة ولكن بشكل غير عنيف.
وأحرجت هذه المظاهرات النظام الإيراني وجعلته يدعو ظاهريا إلى حلول سياسية وانسحاب أرمينيا من بعض المناطق في أذربيجان دون تحديدها، ولكن الإعلام الإيراني كان يقوم بكشف الموقف الحقيقي للنظام المؤيد لأرمينيا، لأنه لا يتحدث سوى عن دعم الناتو وإسرائيل لأذربيجان ويذكّر بعلاقة أذربيجان القوية مع الولايات المتحدة كما يتحدث عن مشاركة منظمة مجاهدي خلق المعارضة للنظام الإيراني في الهجوم على ناغورنو قره باغ بالاشتراك مع دواعش ومقاتلين من الأويغور مع أن بعض هذه الاتهامات لا تستند إلى دليل.
مهما كانت نتيجة هذه المواجهة الإقليمية فلن يكون الأمر مريحا للنظام الإيراني، فإن انتصرت أذربيجان عسكريا أو سياسيا فإن احتفالات النصر ستقام في شوارع تبريز وبقية مدن أذربيجان "الجنوبية"، وإن منيت أذربيجان بهزيمة فستندلع تظاهرات الغضب في نفس المدن، لأنه لن يغيّر شيء من حقيقة أن الأذر شعب واحد وأن هناك رغبة حقيقية عند هذا الشعب للتخلص من الحكم الإيراني الذي لم يقدم سوى الاضطهاد القومي وحياة بائسة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وصحيا، لتضيق أكثر حلقة الأزمات المحيطة بعنق النظام الإيراني من جميع الجهات دون وجود مخارج في الأفق.