عندما بدأت مغامرات إيران في نصف الكرة الغربي تتلاشى من ذاكرة العالم، عادت طائرات الركاب الإيرانية لتهبط في فنزويلا مرة أخرى في أواخر أبريل، وذلك بعد أن وقع تضييق الخناق عليها في الشرق الأوسط من الولايات المتحدة ومن قوى إقليمية مثل السعودية التي باتت تتحرك لإفشال التمدد الإيراني في المنطقة ومحاصرة أذرع طهران عسكريا وسياسيا وماليا وفكريا، فضلا عن انتفاضة الشعوب المحلية ضد هيمنة هذه الأذرع على حياة الناس مثل انتفاضة العراق ولبنان.
وتركز إيران أنشطتها في فنزويلا لإنقاذ الرئيس نيكولاس مادورو، مستغلة صراعه مع الولايات المتحدة، وحاجته إلى ضخ المزيد من الأموال، وتعلقه بأي دعم من أي جهة للحيلولة دون سقوط نظامه. والهدف من وراء هذا الدعم، تثبيت موقع قدمها في فنزويلا وحماية شبكاتها في أميركا اللاتينية.
وقال مادورو، الاثنين، إنه سيزور إيران قريباً، لتوقيع اتفاقيات تعاون في مجال الطاقة وقطاعات أخرى، وذلك بعدما أرسلت إيران 5 ناقلات للوقود إلى البلد المتعطش للبنزين في أميركا الجنوبية.
ويمثل لجوء إيران إلى فنزويلا هروبا إلى ملعب بعيد كان الإيرانيون قد اشتغلوا عليه جيدا، وبعيدا عن الأضواء، في سنوات ما بعد ثورة الخميني، وهو ملعب أميركا اللاتينية بهدف التحرك في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، واستثمار شعارات اليسار في المنطقة المعادي لواشنطن وهيمنة الشركات الأميركية الكبرى على الاقتصاد الأميركي اللاتيني.
نجحت إيران في تقمص شعارات معاداة الإمبريالية لكسب ود قوى المقاومة لنفوذ واشنطن في أميركا اللاتينية، وفتحت أمامها الطريق لتنفيذ أجنداتها السرية.
الآن، وبعد العقوبات الأميركية المشددة على إيران وأذرعها، وخاصة العقوبات المالية التي ساهمت في خنق الأنشطة التخريبية للحرس الثوري، بالتزامن مع أزمة كورونا وتهاوي أسعار النفط، يتجه الإيرانيون إلى تحريك شبكات الاحتياط في أميركا اللاتينية، مستغلين الأزمة الداخلية في فنزويلا وحاجة السلطات إلى دعم خارجي اقتصادي وعسكري لمواجهة الضغوط الأميركية، التي تلاقي تجاوبا شعبيا في البلاد.
وأفادت المصادر بأن الإيرانيين كانوا يوفرون المواد اللازمة لإعادة تشغيل مصافي النفط المتداعية وإعادة المدربين العسكريين والطائرات دون طيار لمساعدة الحكومة على إحكام سيطرتها على قواتها الأمنية ومواطنيها الذين تضاعف يأسهم.
ووفقا لتقرير نشرته وكالة بلومبيرغ، أرسل مسؤولون حكوميون في فنزويلا نحو 9 أطنان من الذهب، أي ما يعادل 500 مليون دولار، على متن طائرات متجهة إلى طهران في أبريل، كمقابل لمساعدتها في إحياء المصافي المعطلة.
وفي مايو، غادرت خمس ناقلات محملة بالبنزين الموانئ الإيرانية إلى فنزويلا. وفي حين تبدو هذه الإجراءات ردا على نداء استغاثة من حليف كان مقربا من طهران في يوم من الأيام، إلا أنها تعدّ تذكيرا بأعمال إيران غير المكتملة في الأميركتين والدور المحوري الذي تأمل أن تستمر كاراكاس في لعبه لإحياء النفوذ الإيراني في المنطقة.
وتعود علاقة إيران بفنزويلا إلى سنة 1960، عندما كان البلدان عضوين مؤسسين لمنظمة أوبك. وبعد ثورة الخميني التي اندلعت سنة 1979، والتي أطاحت بالشاه المدعوم من الولايات المتحدة، طورت إيران علاقاتها مع دول في أميركا اللاتينية مثل كوبا ونيكاراغوا، وساندت الأنظمة الشيوعية التي هدفت إلى إحباط النفوذ الأميركي.
ومع انتخاب الرجل القوي هوغو تشافيز في سنة 1998، فتحت فنزويلا أبوابها أمام التعاون الإيراني في مجموعة واسعة من المشاريع الداخلية وساعدتها على اجتياز الحواجز الثقافية بتوسطها في التحالفات مع الرئيس البوليفي إيفو موراليس والرئيس الإكوادوري رافائيل كوريا.
وكان مفتاح التعاون الإيراني الفنزويلي يكمن في العلاقة الشخصية التي تطورت بين شافيز والرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، الذي حرص على تنظيم زيارات متكررة بين البلدين ووقّع ما يصل إلى 300 اتفاقية تجمع بينهما.
ومع ذلك، انتهت هذه العلاقة في سنة 2013 عندما توفي شافيز وترك أحمدي نجاد منصبه للرئيس الجديد. وأشارت بعض التقارير إلى خيبات أمل متكررة بين كبار القادة الإيرانيين بعد أن شهدوا ما اعتبروه سنوات من الاستثمارات المكلفة التي لم تؤت أكلها أبدا. ولم يحقق مصنع السيارات المشترك “المناهض للإمبريالية” في فنزويلا أهداف الإنتاج وطرح سيارات رديئة الجودة لم تلاق إقبالا كبيرا.
وتأسّس خط طيران كاراكاس – طهران في 2007 على الرغم من انخفاض حركة التنقل بين البلدين، ممّا أدى إلى استنزاف الأموال دون مردود واضح، وتوقّفت تلك الرحلات في سنة 2010. ثم تعطلت مشاريع النفط بعقود رأت إيران أنها لا تتناسب مع مصالحها، في حين فشلت صفقات التعدين المحتملة في تجاوز مرحلة البحث، حيث بقيت عدة موارد معدنية في أيدي العصابات الكولومبية والمجموعات الإجرامية.
في النهاية، أدت إدارة الزعيم الفنزويلي نيكولاس مادورو المالية غير الكفأة ومنحه المناصب القيادية العليا للمقربين الفاسدين إلى جعل فكرة التعاون غير مشجّعة.
وتلاشت العلاقات الإيرانية مع بلدان أميركا اللاتينية الأخرى أيضا. ففي بوليفيا، انتهى عصر الاستغلال المشترك لرواسب الليثيوم حيث اختار الرئيس إيفو موراليس شركاء ألمان وصينيين يتمتعون بقدرات أعلى من قدرات الإيرانيين.
وفي سنة 2019، أعلن موراليس استقالته من منصبه، بعد موجة احتجاجات عقب إعلان فوزه بولاية رابعة في انتخابات أكد خصومه أنها مزورة. إثر ذلك، أعادت الحكومة المؤقتة اعتماد مدرسة التدريب العسكري المشتركة التي بنتها إيران شمال سانتا كروز أكبر مدن بوليفيا.
أما في الإكوادور، فقد توقفت الشراكات المصرفية، ومشروع محطة توليد الطاقة، والتعاون العسكري، ومشاريع التعدين المشتركة بسبب العقوبات الأميركية على إيران حيث كانت حكومة البلاد تطمح إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة بدل ذلك.
وعلى الرغم من تضامن طهران مع رئيس نيكاراغوا دانييل أورتيغا ضد الولايات المتحدة، فقد كانت ديون البلاد القديمة عقبة في طريق تقديم دعم جديد كبير. كما فشلت المراكز الثقافية والدينية التي أنشأتها إيران في المنطقة في زيادة عدد أتباع الإسلام الشيعي أو خلق موجة دعم كبيرة لنظامها.
ومع كل ذلك، لا يعني هذا اندثار مشاريع إيران في الأميركتين، إذ تشترك إيران وكوبا في لجنة ثنائية للتعاون الاقتصادي والعلمي والتقني.
وتبقى علاقة الحكومة في طهران مع اليسار السياسي في بوليفيا موجودة. كما التجأ المرشح الرئاسي لحزب موراليس “الحركة من أجل الاشتراكية” ووزير الاقتصاد السابق، لويس آرس، إلى قناة “إيسبان تي في” الناطقة باللغة الإسبانية في إيران لانتقاد الحكومة المؤقتة التي ترشّح ضدها. وتتمتّع “إيسبان تي في” بجمهور واسع في أميركا اللاتينية من خلال نشاطها على الإنترنت واعتمادها على أنظمة الأقمار الصناعية لتنشر أجندتها ضد الولايات المتحدة.
وفي التسعينات، عمل الوكيل اللبناني الإيراني، حزب الله، على تمويل عمليات الإرهاب العالمي من منطقة الحدود الثلاثية التي تتقاطع عندها حدود البرازيل والباراغواي والأرجنتين.
وقال ستيفن جونسون، المحلل والخبير في الشأن الإيراني، إن التعاون الأمني الدولي ساعد على الحد من أنشطة حزب الله، لكن عناصر الحزب في أميركا الجنوبية ربما اكتسبوا ميزة جديدة عندما تلقى المئات من اللبنانيين والسوريين، بمن في ذلك عملاء حزب الله، تصاريح الإقامة الفنزويلية التي سمحت لهم بحرية السفر إلى جميع أنحاء أميركا اللاتينية.
وقد سهل وزير الصناعة الفنزويلي المنحدر من أصول عربية طارق العيسمي ذلك. وقد أدين عيسمي بتهم تهريب المخدرات في الولايات المتحدة وعوقب على تعاملاته المزعومة مع تجار المخدرات.
ودققت صحيفة نيويورك تايمز في ملف استخبارات يربطه مع والده بجهود حزب الله في التجنيد وجمع الأموال، كما أثبتت أنّ لتصاريح الإقامة دورا مؤثرا في خططه.
وقالت شرطة الهجرة الأميركية في بيان “في مهامه السابقة، كان (العيسمي) يشرف أو يسيطر جزئيا على شحنات المخدرات التي تزن أكثر من ألف كيلوغرام والمرسلة من فنزويلا… وكانت وجهة بعضها النهائية المكسيك أو الولايات المتحدة”.
وأشار ستفين جونسون في مقال بمجلة فورين بوليسي إلى أن هذه العلاقات لا تبدو جوهرية مثل العلاقات العسكرية والمالية والصناعية المشتركة التي ميزت نفوذ إيران، لكنها ستظل كافية لإدخال بلبلة على الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين، وخاصة إذا مالت الكفة السياسية في أميركا اللاتينية نحو مسار العودة إلى اليسار الراديكالي.
تكمن المشكلة في أنه سيكون من الصعب على خطط طهران أن تنجح إذا انهار نظام مادورو. لذلك، يتّجه التركيز الإيراني إلى مساعدة صناعة النفط الفنزويلية، التي توفر 90 في المئة من دخل البلاد لتمويل البرامج الاجتماعية والحفاظ على نسبة دعم مهمة.
بعد أن أضاعت فنزويلا الاستثمار والصيانة، أصبحت لا تضخ سوى ثلث كمية النفط التي كانت تنتجها دون أن تستثمر شيئا من البنزين أو المشتقات الأخرى القابلة للاستخدام. ولأن البلاد تفتقر إلى الاستثمار فقد تعطل قطاع الكهرباء وتعثر توزيع المواد الغذائية مما جعل المواطنين يتضورون جوعا، كما انهار النظام الصحي.
ولافتقارها إلى الذهب والأموال اللازمة لدفع الفواتير، لن تتمكن فنزويلا قريبا من شراء المواد الغذائية والأدوية التي تستورد معظمها حاليا. أمّا بالنسبة إلى إيران، فإن هذا يعني غرق السفينة الأم التي تُعلّق عليها آمالها الإقليمية.
وإذا فشلت الدكتاتورية في فنزويلا، فقد تكون كوبا ونيكاراغوا على الطريق بعدها، مما سيقلص لائحة شركاء إيران المتبقين في أميركا اللاتينية ليقوض ذلك في النهاية قدرتها على تقليص نفوذ الولايات المتحدة.
لذلك، تعدّ مساعدة نظام مادورو على إعادة تنشيط عمليات التكرير لتزويد البلاد بالبنزين وتوليد الإيرادات أمرا يستحق عناء إيران. ويبقى مقدار ما يمكنها فعله، بالنظر إلى اقتصادها المتضرر من العقوبات.
قد تكون روسيا والصين، اللتان تعكّرت آفاق استثماراتهما في فنزويلا، على استعداد لتقاسم أعباء إيران من أجل حماية بصمتهما الجيوسياسية في المنطقة. وبالإضافة إلى ذلك، قد تتطلع الحكومة في طهران إلى استغلال أي فرصة تمكّنها من تعويض خسائرها من خلال المطالبة بدفع ما تبقى من احتياطيات الذهب في فنزويلا البالغة 6.3 مليار دولار مقابل تحريك الحرس الثوري الإيراني لدعم السلطات بالخبرات في مجال التدريب والتفجيرات والاغتيالات والتحايل على القوانين.
ويصعب تصور ما ستفعله الولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية الديمقراطية ردا على تصاعد الوجود الإيراني في المنطقة خلال الجائحة الحالية. لكن تجاهل التدخل سيكون أمرا مستحيلا.